القدس وخيار العيش بالسيف كتب ريموندا حوا طويل

عمد الاحتلال الاسرائيلي ومنذ اللحظة الاولى التي استولى فيها على المدينة المقدسة، إلى إعادة هندسة المكان وتغيير معالمه ومحو الخطوط والفواصل، في اجراءات لم تنته منه حتى الان من أجل تشكيل مدينة مقدسة اخرى، تحمل طعما وذوقا وهوية متخيلة، لم يتوقف الاحتلال اطلاقا عن اعادة انتاج المدينة المقدسة مرة تلو المرة، فبعد أن دمر حارة الشرف والمغاربة ووسع الساحات الغربية للمسجد الاقصى، واخترع هندسة اخرى خارجية، انكب يبحث تحت الارض عما يشفع له أو يبرر احتلاله أو يؤصل لملكيته، فحفر تحت الاقصى وحوله، وفتش التراب ذرة ذرة ولكنه لم يجد شيئا يشير اليه لا من قريب ولا من بعيد.

وقد وجد المحتل كل الامم تحت التراب، كل أمة تركت شيئا؛ قطعة نقد، مدماكا من الحجارة، جرة من فخار، خوذة محارب، فأس فلاح، ولكنه لم يجد له شيئا، وكأنه لم يمر من هنا، ولكن ذلك لم يثنِ المحتل عن افعاله واجراءاته، فتخيل ما تخيل، واسترجع من اوهامه واحلامه ما اراد، فبنى تحت الاقصى مجسمات وأقام أنصابا وايقونات وكتب وحفر وصور ما يوهم بتاريخ اسطوري لا دلائل عليه ولا براهين. وبالنسبة للمحتل، فان الواقع غير مهم اطلاقا، واذا كانت مدينة القدس لا تعترف به، فإنه – بالقوة فقط – يستطيع ان يعيد تشكيلها، وهو ما فعله ويفعله طيلة الوقت. وما فعله المحتل بالمدينة المقدسة، عاصمتنا الابدية والروحية والسياسية :اشياء كثيرة وكثيرة جدا. نوردها على النحو الآتي:

جغرافية القدس

اولى الاجراءات التي قام بها المحتل لتدمير مفهوم القدس الجغرافي وتهشيمه وتمييعه هو ما يتعلق بمساحة القدس، اذ أن المحتل قام بسرعة بتغيير مفهوم مساحة القدس وجغرافيتها، حتى تفقد كل القوانين الدولية او الاقليمية المتعلقة بمساحة القدس أهميتها أو دلالاتها، فالقدس في زمن الاحتلال لا تشبه ولا تساوي نفس المساحة التي كانت في زمن العثمانيين او البريطانيين او الاردنيين، فالقدس في زمن الاحتلال مختلفة ولم تعد تلك المدينة التي تعرف بانها ذات مساحة لا تزيد على كيلو متر مربع، ولا حتى تلك التي تضم احياء الشيخ جراح ووادي الجوز واشباههما. المحتل، وبقصد وعمد، وسع مساحة المدينة بالتدريج، وظل يوسعها ويوسعها حتى تحولت الى مساحة جغرافية تصل ما بين رام الله وبيت لحم من جهة الشمال، ومن مشارف الخليل الى مشارف اريحا من الشرق والغرب.

ان توسعة المدينة المقدسة بهذا الشكل يعني ان المحتل يريد اعادة انتاج المدينة بطريقة تخدم أهدافه الحالية والمستقبلية، وهو يريد مدينة اخرى لا يعرفها أصحابها، مدينة مقطوعة الصلة بواقعها وفضائها وثقافتها وتاريخها، مدينة لا تعرف سكانها ولا يعرفها سكانها، بحيث يتم التحكم بتطورها ونموها وأولا وأخيرا بخياراتها. ان توسعة المدينة المقدسة بهذا الشكل يعني ان المحتل يريد أن يستوطنها كما يريد وان يستثمرها كما يريد وان يوظفها لخدمة اهدافه واوهامه واحلامه. مدينة يتحكم بطرقها ومساحاتها الخضراء واماكنها المقدسة وشكل بيوتها ونوع ازهارها ونباتاتها.

ان توسعة المدينة بهذا الشكل يعني التهيئة الكاملة للاستيطان وتوزيع بؤره و تجمعاته كما يحلو للسياسة الاسرائيلية ان تفعل. ان التوسعة المتوقعة ليست لصالح السكان الاصليين ولا لمصلحة المكان حتى، فهي توسعة استعمارية تهدف الى مزيد من السيطرة والاخضاع والاستثمار بالمكان ليس الا. هذا كله من جهة، اما من جهة اخرى، فان توسعة المدينة المقدسة بهذا الشكل سيعطي اسرائيل الفرصة لان تناور في اية مفاوضات قادمة حتى في مفهوم القدس الجغرافي، فَعَنْ أي قدس سيتم الكلام؟! هل سيكون الحل النهائي يتضمن القدس العثمانية أم الانتدابية أم الاردنية أم الاسرائيلية التي جعلت من القدس مكانا غير معرف بسبب التقسيمات الدينية والتخطيطية وغير ذلك من أنواع الالتفاف والخداع، اما من جهة ثالثة فان هذه التوسعة تقود الى الامر المخيف التالي.

ديموغرافية القدس

ان توسعة المدينة المقدسة بهذه الطريقة- وهناك خطة أعدتها وزارات متعددة في الحكومات الاسرائيلية المتعاقبة تسمى خطة (2020)- تترافق مع تغييرات ديموغرافية عميقة في المدينة، تقضي بطرد أصحاب المدينة الشرعيين وتخفيضهم الى ما نسبته 15 – 20 في المئة من عدد سكان القدس. وهو ما تفعله اسرائيل بطرق ناعمة واخرى فظة وقاسية.

ان سياسات هدم البيوت في سلوان والشيخ جراح وجبل المكبر وصور باهر لهي جزء من هذه الخطة الجهنمية، كما ان شروط منح الاقامة في القدس أو سحبها لهي شروط تكاد لا تخطر على بال شيطان، كما أن سياسة لم الشمل هي من السياسات العنصرية بامتياز، واذا اضيف الى ذلك عمليات البناء او الترميم او اصلاح البيوت للمواطنين الفلسطينيين وكذلك انواع الضرائب ومضايقات السكن والاستيلاء على البيوت وفرض قانون أملاك الغائبين، كل ذلك يعني ببساطة أن المحتل الاسرائيلي يريد تهجير المواطنين المقدسيين بما يسميه قوانين واجراءات، هي عمليا سياسة طرد وترانسفير علني وملموس، وهي سياسات لا ينتقدها احد ولا يقف في وجهها أحد.

وقد استطاعت اسرائيل وعلى مدى 37 سنة من احتلال شطر المدينة الشرقي أن تهجر الالاف من أصحاب المدينة الشرعيين. وقد جعل الاحتلال من التمتع بحق العيش في القدس امرا بالغ الصعوبة لغير اليهودي.

ان القوانين والاجراءات والاوامر التي يعمل بها ومن خلالها المحتل، لهي أسطع مثال على العنصرية البغيضة، إذ انه يسمح لكل يهودي ولد الان في اي بقعة في الارض ان يسكن ويملك ويقيم في القدس، في حين انه يمنع هذا الحق عن العربي الفلسطيني الذي يستطيع تعداد عشرة اجداد له عاشوا في القدس على التوالي. ولم ينتبه احد الى عنصرية الاحتلال، واذا فعل، فانه لا يستطيع ان يفعل شيئا، ما زالت اسرائيل واحتلالها بقرة مقدسة، انتقادها يجري همسا، وادانتها تشبه الاعتذار.

طرد المواطنين: سياسة دائمة ومستمرة

وقد تعودت اسرائيل على طرد المواطنين الفلسطينيين من بلدانهم وقراهم، وقد فعلت ذلك منذ عام 1948 وحتى اللحظة، فقد طردت مواطني قريتي اقرث وبرعم في الجليل، وطردت المواطنين في حيفا في بداية الخمسينيات، وطردت أكثر من ثمانمئة الف فلسطيني من أكثر من 650 قرية ومدينة فلسطينية في العام 1948 في أكبر كارثة تحل بالشعب الفلسطيني، تلك الكارثة التي حولت تاريخ الفلسطينيين وجعلتهم شعبا مشردا لم يستطع أن يبني دولته ولا وطنه، وعاشت أجياله في المنافي والشتات، وبدأت بذلك أطوال معاناة لشعب لم يحظ منذ العام 1948 بلحظة سعادة حقيقية.

أذكر تلك الايام التي تم طردنا فيها من حيفا وعكا، حيث تركنا البيت والذكرى والذاكرة وأيام الطفولة والدفء والعائلة والبحر وروائحه واسراره، ولكن اسرائيل لم تتوقف عن عمليات الطرد والتغيير الديموغراقي، فحاولت ان تغير ديموغرافية الجليل من خلال وثيقة كنيج في اوائل الثمانينيات، وملأت الضفة الغربية وقطاع غزة بالمستوطنين من أجل تغيير الواقع السكاني في مقدمة للتغيير السياسي، ان عمليات الاستيطان من جهة والطرد من جهة اخرى هي من اساليب اسرائيل الفضلى والدائمة في تغيير الواقع والوقائع، وهكذا فعلت في الغور وفي النقب وفي مدينة القدس وما تزال تفعل. ولكن حدث امر جعل اسرائيل تعود فيه للمربع الاول، الا وهو ما يلي:

الهبة الشعبية

ان الهبة الشعبية الفلسطينية وخاصة في القدس الشريف، اعادت اسرائيل الى المربع الاول في الصراع، فالعاصمة الموحدة التي تشدق بها نتنياهو عاد الى تقسيمها ووضع الجدران والبوابات الحديدية والاسمنتية على ابواب احيائها وقراها ومخيماتها، وعمليات الطرد المستمرة اعادت الاحتلال الى اسمه وحجمه وبشاعته، هذه الهبة الشعبية جعلت من المحتل يتخلى عن ادعاءاته ودعاويه وأكاذيبه الكبرى، إذ عادت القدس الى مربع التفاوض باعتبارها الركن الاول في اي عملية تسوية، وعادت العلاقة الى مربع الاشتباك والمواجهة، وجعلت المحتل يدفع ثمن وجوده، وهي هبة مستمرة كما يبدو، لان المحتل يتعامل معها وكأنها غضبة عصافير لا غضبة جماهير تريد حريتها ومكانها ومقدساتها، وهي هبة ستكسر اية تحالفات مشبوهة في المنطقة، وستدمر اية احلاف هشة او أية اولويات لا تصب في مصلحة فلسطين.

واذا كان العالم العربي منشغلا الان في همومه واوجاعه، الا ان فلسطين هي الشافية وهي المجمعة وهي الموحدة لكل الجهود والرؤى والقوى، وبهذه المناسبة، فاننا نهيب باخوتنا العرب والمسلمين، الاقربين والابعدين ان ينتبهوا الى عدم التخلي عن الفلسطينيين الان، ان التخلي عنا في هذه الظروف لن يخدم تلك الانظمة او تلك الشعوب. وليس من مصلحة هؤلاء اطلاقا عدم توفير ذخر استراتيجي للقيادة الفلسطينية والشعب الفلسطيني في تصديه للاحتلال.

ومن هنا، نرى حكمة الرئيس محمود عباس (ابو مازن) الذي يوازن في جهوده الدولية من جهة والاقليمية من جهة أخرى، وكذلك حكمته في التدرج في الادوات والاساليب، واتباع الخطوات المتوالية، الثابتة والمستقرة، في ادارة الصراع مع المحتل، الذي ادار ويدير ظهره لاية تسوية تخص القدس أو الاقصى او باقي الاراضي الفلسطينية المحتلة.

ان الهبة الجماهيرية الان تمنح الرئيس محمود عباس قدرة وموقعا وهامشا للقفز الى الخطة البديلة في التعامل مع محتل يعتقد انه بالمزيد من القوة يستطيع ان ينجح. قال السيد المسيح ردا على كل من يريد أن يعيش بالسيف – كما قال نتنياهو – : من يقتل بالسيف، بالسيف يقتل.

ان العيش بالسيف لا يكفي ولا يستمر ولا ينجح. ان اختطاف القدس وارتهان الاقصى والقيامة بيد محتل يعتقد انه الاحق بكل شيء، يعني ان الوصفة جاهزة للانتقال الى مواجهة شاملة. وعندها، سيدرك ذلك المتطرف الذي يختطف جمهوره ومستقبله الى هوة سوداء عميقة، ان الحكمة لها وقت محدد، يجب ان لا يفوّت.

مواضيع ذات صلة

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

أهم الأخبار

فتح ميديا أوروبا