في ذكرى رحيل الجبل الذي لم يهزه ريح

تأتي الذكرى الحادية عشرة لرحيل الجبل الذي لم يهزه الريح ، الذي اعاد كتابة التاريخ الفلسطيني الحديث.فقد لمس منذ يفاعة شبابه وانخراطه في العمل الفدائي ضد الانجليز في مصر وعلى ضفاف القناة بؤس التنظير المتثاقل وأدرك ان فلسطين تحتاج الى عمل وان العمل يحتاج الى رجال وان التحرير ليس مسألة نظرية او فكرية بل مسألة عملية بحامل وعي وطني بسيط وقريب.فجر ياسر عرفات عام 1965 الثورة الفلسطينية المعاصرة بإطلاق الرصاصة الاولى وأنشأ الميلاد الوطني للشعب الفلسطيني في وقت كان يتطلع فيه هذا الشعب الى وثيقة وطنية تنزع عنه صفة اللاجئ،وكان يدرك جيدا ان هذه الرصاصة ستفجر وضع الامة الراكد وإرادة الانسان هي الحقيقة الوحيدة لبلوغ الهدف.
انتقل الفلسطينيون مع ياسر عرفات من مرحلة اللجوء الى مرحلة الكفاح الوطني بعد ان اعاد ياسر عرفات اصدار الهوية الوطنية. بدأ ابو عمار الثورة المسلحة فشكلت صورته بالمسدس والكوفية الفلسطينية انطباعا حسيا في مشاعر الشعب الفلسطيني فهو القائد وهو الهوية الوطنية المنبعثة من بين ركام النكبة وبؤس اللجوء وهو المشروع الوطني الذي ظل ينطلق من المسئولية وفوهة البندقية في وقت كان يبحث فيه عن الخط التاريخي في سيرة الباحثين عن الهوية التي ضاعت بين الزحام والركام وفقدان التاريخ حتى باتت المسافة بين تونس وفلسطين هي المسافة ذاتها بين الواقع والمستحيل. وكانت اوسلو في ذهنية عرفات البراغماتية أسوأ الخيارات الاكراهية لقبول الرهان حين قرر خوض المعركة الاصعب في التاريخ وهي المعركة السياسية نتيجة مرض النظام العربي الذي بات لا هو للحرب ولا هو للسلم الى ان وصلت المذابح والجرائم الاسرائيلية الى النقطة التي يتحرج اي نظام عربي من ادانتها.
وكانت مقدمة الرحيل الاخير عبر تمسكه بالثوابت الفلسطينية وإصراره على الوصول اليها بإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة. وقد ادرك من خلال بصيرته انها لن تعطى له إلا من خلال الاساليب التي طرحوها عليه في كامب ديفيد، فلم يسقط القدس من قاموسه السياسي رغم الضغوطات التي انهالت عليه ولم يعبث بالمصير الفلسطيني وان اختياره الوحل السياسي لم يجعل وجدانه وسريرته تتلوثان. ولما وجدوه يقبض على الحقوق الوطنية الفلسطينية وغير مستعد للتفريط بها وحين رأى التآمر فضل ان يقضي سجينا ومريضا. سجنوه وحاصروه في مكتبه ولم يعذب زعيم كما عذب ياسر عرفات فقد قهروه وظلموه حتى سكنت هذه الوقائع في ضمير كل فلسطيني.
راهنوا على الجبل ان ينزاح بفعل تغيير الرياح وإغلاق الساحات العربية في وجهه وان الرجل وشعبه لا بد ذاهبون الى طعم الدولة بأي ثمن كان، راهنوا بالقياس على انسحابه من عمان وبيروت وطرابلس بأن سيسقط في واي بلانتيشن وكامب ديفيد وطابا لأنهم رأوا في اوسلو انسحابا للرجل من الثورة لكنهم عجزوا عن فهم حقيقته حيث ارادها ذهابا بالثورة الى فلسطين لتكون الدولة وعاصمتها القدس الشريف.
في مرضه افاقت الدنيا وصحت كل العيون ترقب وتتابع وتلاحق الاخبار وفي رحيله حقق الصدمة في الضمير العالمي وأيقظ نزعة الحق فيه. فقد كان بطل الحرب وبطل السلام وكان القادر على قيادة القضية على كافة المستويات وعبر كل الاجواء والتقلبات.
رحل ياسر عرفات وقد ترك ارثا عظيما من الصبر والشجاعة ونموذجا من الطهارة وحب الوطن. نعم مات شهيدا الذي طلب الشهادة بلسانه في حصاره حين زحف الى مقره جيش كامل ليطوقه ويقصف مقره .. يومها صاح شهيدا شهيدا شهيدا دون ان يذكر نصف الجملة الاخر “لا للخيانة والاستسلام”.
ان رحيل ياسر عرفات الموصوف بأنه كان العقبة الرئيسية امام تقدم عملية السلام كان مجرد مؤامرة على القضية الفلسطينية .. وهل تحقق السلام بعد رحيل عرفات وهل استجابت اسرائيل لاستحقاقات عملية السلام واعترفت بحقوق الشعب الفلسطيني .
لقد امتحن القانون الدولي والمرجعية الدولية ، فما دامت “العقبة ” قد زالت فهل زال الاحتلال.
لن ينتظر العالم طويلا ليدرك ان الانحياز الامريكي لإسرائيل لا يشكل العقبة فحسب بل يجعل من اقامة دولة فلسطينية امرا مستحيلا. فلا يستوي السلام مع استمرار الاحتلال والسيطرة على مصير الشعب الفلسطيني
برحيل عرفات اغلق الباب على مرحلة كاملة من مراحل القضية الفلسطينية ولم يفتح بغيابه على قبول الشروط الاسرائيلية التي رفضها سيادة الرئيس محمود عباس فلم يبقى للفلسطينيون ما يتنازلون عنه في ظل استمرار سياسة الاستيطان الاسرائيلية التي ابتلعت الارض الفلسطينية .
قد يحتاج التاريخ الى وقت طويل لترتيب اوراق هؤلاء العظماء وترتيب اوراق هذه الظاهرة التي من الصعب تكرارها في التاريخ الفلسطيني لكن التاريخ سيمنح ابو عمار رتبة الشرف في علم القدرة على البقاء.

مركز الإعلام

مواضيع ذات صلة

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

أهم الأخبار

المكتب الإعلامي الفلسطيني في أوروبا