“ملحمة تل الزعتر”

بقلم: حنان باكير

أن تكتب سفر ملحمة تل الزعتر، فأي عمل رائع هذا، إذ كيف تستطيع حشد ذلك الكم من الدم والنار والموت بين دفتي كتاب.. وأن تكتبه من قلب الحدث بعد معايشته من بدايته وحتى لحظاته الأخيرة، فهذا هو الإنجاز العظيم. كتاب “يوميات طبيب في تل الزعتر”.. للدكتور يوسف عراقي، هو شهادة يومية حية من قلب جحيم الحصار، صدرت حديثا طبعته الثالثة في حيفا، مدينة المؤلف ومعشوقته.
كان اغتراب البحر بين رصاصتين/ مخيماً ينمو، وينجب زعترا ومقاتلين/ وساعداً يشتد في النسيان”.. بهذه الأبيات يستهل الطبيب كتابه، مع مقاربة سياسية، للأوضاع المحلية والدولية، التي أحاطت بتلك الملحمة، حيث الظروف كانت مهيئة وتدفع باتجاهها. فتل الزعتر..”اسم أسال الدموع في كل البيوت الفلسطينية.”
أذكر حينها، كيف كنا نتابع يوميات تل الزعتر، بانحباس الأنفاس والدمع الذي يحرق الأجفان، لكن أن تقرأ الأحداث من طبيب في تعاطيه اليومي مع الدم والنار، فهذا أمر يقارب الخرافة.. رغم صعوبة أن يستطيع أحد أن يروي القصة كاملة بكل جوانبها وتفاصيلها “.. فملحمة تل الزعتر، لا يمكن لأي منا أن يغطي كل ما حدث فيها..” ص 7. ومع ذلك حاول الطبيب أن يكون شاهدا ومؤرخا وموثقا الى جانب دوره كطبيب وجراح، يعمل في ظروف قاسية، تعادل قسوة الحصار. كان يغتنم لحظات استراحة نادرة، لتدوين عناوين الأحداث والملاحظات على قصاصات ورقية. ولمزيد من الالتزام بالأمانة التاريخية، استعان بالبرقيات المتبادلة بين غرفة العمليات المركزية للمقاومة، والقيادة المحلية للمخيم. وحين صارت “الذكريات وراء ظهره”، وأراد كتابة الملحمة، كانت قصاصات الورق، مرجعه، وذاكرته التي ترسخت فيها الأحداث، بسبب أحاديثه المتواصلة الى وسائل الاعلام.
تتسلسل أحداث الكتاب بحسب التاريخ. هي يوميات مؤرخة بدقة، القصف وأسماء الشهداء والجرحى.. أسماء الأماكن والمحاور، الاقتحامات والدفاع لصدها، ومحاولات اختراق الحصار.. ربما سمعناها في ذلك الحين، وتحدث بها الطبيب لوسائل الاعلام، لكن قراءتها بتفاصيلها وتصوير العديد من المواقف، يجعلنا نقف أمام أديب يجيد التصوير الدقيق ونقل المشاعر.
تمر الأيام، ينفذ الطعام والماء. القرابين البشرية تتسارع على مذبح الدفاع والصمود.. الأدوية، مواد التعقيم، وأكياس الدم تنفد ولا مجال للحصول على بدائل. بعد نفاد المعلبات، عاش المحاصرون على العدس، يأكلونه بأشكال مختلفة، وماؤه حل مكان الحليب للأطفال. في أوقات الهدنة والاستراحة يجول الكاتب على المواقع، يتحدث الى المدافعين. في منتصف ايام الحصار، غادر د. يوسف مع زميله د. عبد العزيز اللبدي المخيم، بتنسيق أمني لإحضار أدوية. كان الخروج والعودة مغامرة فوق الطاقة. وعندما عادا، أيقنا أنه لا يجوز ترك المخيم بدون طبيب. فقد انهارت معنويات المحاصرين، وصف حال الناس هنا كان رائعا!
الحصار يطول، وينفذ كل شيء. وعلى الناس مواجهة كل أشكال الموت.. الموت جوعا، أوعطشا أو بقذيفة أو رصاصة قناص! معركة المياه وتأمينها، عندما تخرج النسوة لمصدر الماء الوحيد، يستنفر الطاقم الطبي.. استعدادا لاستقبال الجريحات، فكل قطرة منه ثمنها دم غزير.
لم يتخل الطبيب عن انسانيته واعترافه بالجميل، يذكر مساعدة راهبات الكنيسة المجاورة للمخيم. والراهبة البلجيكية. وايفا السويدية، التي صمدت مع زوجها الفلسطيني، فولدت له طفلا بعد استشهاده. في حفرة من صنع قذيفة، غرس الطبيب نبتة شجرة!
سيارات الصليب الاحمر، أوقفت القصف قليلا، لكن لتبدأ حرب الأعصاب.. ما ان تلوح أعلامهم للسكان، حتى تتعرض لرشقات نارية تعيدها من حيث أتت. وتتكرر العملية. عملية اجلاء الناس هي حلقة رعب حقيقي.
لم يعد لدي ما يكفي من عدد الكلمات للمزيد، ولا الطاقة النفسية للاسترسال.. لكني أضيف أن الممرضة فادية التي شاركت في معركة الصمود، صارت شريكة حياة الطبيب يوسف.. جمعتهما الحرب والحب.

مواضيع ذات صلة

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

أهم الأخبار

المكتب الإعلامي الفلسطيني في أوروبا