صناعة الأعداء!

بقلم: عبير بشير

أخذ الكوميدي ديك غريغوري يطوف في الولايات الأميركية في مسعى منه لتحقيق الشهرة. ولما وصل إلى مدينة سانت لويس، قرر المجلس البلدي الاحتفاء به وقدّم له مفتاح المدينة. بعد ذلك ذهب ديك إلى أحد الفنادق ليحجز غرفة، فاعتذرت له موظفة الاستقبال: «آسفة، إننا هنا لا نقبل الزنوج». حينها صدح بالعبارة التي ذهبت مثلاً: «لقد أعطوني مفتاح المدينة، وغيروا القفل».
وعلى نفس المنوال، يرى بيار كونيسا في كتابه «صنع العدو، وكيف تقتل بضمير مرتاح» أن العدو الذي يبدو لنا بأنه معطى مفروض منذ العصور الوسطى، لم يعد كذلك بل بات العدو خياراً سياسياً يجري صنعه وتصويره عبر عملية بناء معقدة لخدمة مشروع الدولة والنظام الخارجي والداخلي.
إن فكرة صنع العدو والصراع معه هي ليست فكرة سياسية أو عسكرية فقط، بل فلسفة ضاربة في جذور الفكر الإنساني، فالحرب جرى تصويرها منذ أزل التاريخ على أنها حرب بين الخير (نحن) والشر (الآخر)، وهي تأخذ صوراً مختلفة فحتى الهوية هي شكل من أشكال الاختلاف الذي يقود إلى عداء الآخر لأنه مختلف، وكما يقول إدوارد سعيد: إن أزمة الهوية تتضح بقوة في المجتمعات التي تنخرط في دينامكية الحداثة؛ لأنها تكتشف الآخر المختلف، وتكون موقفاً دفاعياً وربما يتطور إلى عدائي أو كما يقول «كارل سميث»: إن العدو هو الآخر، الشر، التهديد، ولا يمكن فصله عن الحياة.
ويكشف كونيسا الذي شغل منصب مساعد مدير لجنة الشؤون الإستراتيجية في وزارة الدفاع الفرنسية بالتسعينات في كتابه عن كواليس الحروب بجرأة مؤلمة ولاذعة، حيث يرى أن العدو الذي كانت تسعى الحرب التقليدية إلى التخلّص منه لأنه كذلك، غير العدو الذي يجرى اختياره، وبالتالي صناعته من أجل الإبقاء عليه، «فمن يحيَ على محاربة عدوه يجد أن من مصلحته أن يدعه يعيش»- فريدريش نيتشه.
ويهدف المؤلف إلى تحليل كيفية نشوء علاقة العداوة، وكيف يُبنى المتخيل قبل الذهاب إلى الحرب. فحين توصلنا العلاقة الإستراتيجية إلى الحرب، فإنها تؤلف مساراً جدلياً يتضمّن فعل الطرف الأول وصورته، وتؤثر في فعل الطرف الثاني وصورته كذلك. ويعتقد كونيسا بأنه من الأهمية بمكان، محاولة فهم كيفية إنتاج العجرفة الحربية التي تدفع الناس إلى ممارسة فعل القتل المدجج بالضمير، وكيف يمكن للعسكري كإنسان أن يقتل بضميرٍ مرتاح.
إن الإجابة تكمن أولاً في عدالة الحرب وما توفره الأيديولوجيا والعصبية والحزبية من غطاء، ثم في» التقنية «، فالمسافة التي تبقيها الطائرة الحربية أو الدبابة بين القاتل وضحاياه، تجعله بعيداً عن رؤية ما يصيب ضحاياه أثناء قصفهم. كما يلاحظ كونيسا ما يُعرف بـ «الوساطة لفعل القتل»، فالجندي ليس من أصدر الأمر بفعل القتل، ويعتبر كونيسا أن القتل يبدو أكثر تنظيماً وراحة بالبزة العسكرية، فالبزة العسكرية تجعل القتل مبرّراً وقانونياً.
ويطرح كونيسا سؤالاً مركزياً لتفكيك نوابض الحرب: هل يمكن أن نعيش من دون عدو؟ وسرعان ما يجيب: العيش من دون عدو للدولة والنظام صعب جداً، والأغرب أن يصبح وجود العدو حاجة قومية ملحة، إنه عقار قوي لبقاء الدولة أو المجتمع ولاستمرارية نظام ما، وهو من أنجح العوامل التي تبلور الهوية القومية، كما تغذي ذكرى الحرب الأساطير الجماعية، ويرى المؤلف أن العدو يقدم خدمات جليلة، فهو يعمل مهدئاً لقلقنا الجماعي الذي لا بد من أن نسكته بإيجاد عدو حقيقي أو متخيل، وهو ضروري من أجل صهر الأمة وشد أجزائها إلى بعضها البعض إزاء خطر خارجي، خصوصاً في دولة ذات إثنيات عرقية وطائفية، وبذلك يتحقق تجاوز التناقضات الداخلية المهيأة في كل آن للانفجار لصالح توجيه مسار القوة بما تحمله من تناقضات صراعية نحو ذلك الآخر أو العدو. كما يؤدي العدو دوراً فائق الأهمية في الدول المتقدمة لأنه يشغل قطاعها الصناعي والعسكري، ويقوم بتفريغ فائض القوة والإنتاج لديها. في حين إن وجود العدو الداخلي أو الخارجي في الأنظمة الاستبدادية الشمولية التي تواجه مصاعب داخلية وأخرى في بنية النظام ضرورة إستراتيجية؛ كونه يمثل مخرجاً من تلك الأزمات؛ لأنه لا صوت يعلو فوق صوت المعركة.
ويجزم كونيسا بأن معظم مراكز التخطيط والتفكير الإستراتيجية، وأجهزة الدولة والمخابرات، وصناع الرأي، والميديا بوسائطها المتعددة يشتغلون على صنع العدو، فيما يرى هيغل أنه دون احتمال الحرب والتضحيات التي تتطلبها سيصبح الإنسان لين العريكة ومستغرقاً في شهواته، وسيتدهور المجتمع ويصبح مستنقعاً للملذات، وعلى نفس الخطى سار هيدغر الذي كانت نظرته للعدو تنطلق من تقديس مبدأ الصراع؛ فالإنسان «يجب عليه أن يخلق لنفسه عدوه الذاتي كي لا يسقط في العطالة، وكلّ ما هو موجود يخضع لمبدأ الصراع، وحيث لا وجود للصراع والهيمنة هناك تفسخ وتحلل وانهيار في المجتمع».
وعلى عكس ما هو متوقع فالعدو ليس مستهدفاً بالقتل دائماً، ذلك لأن من مصلحة النظام أن يبقى في عدوه رمقاً يستمد منه حيويته ومعاني وجوده، وإلا خسر كثيراً. وهنا تبرز الجملة الشهيرة لألكسندر أرباتوف، أحد مستشاري غورباتشوف عام 1989م لزملائه الغربيين: سنقدم لكم خدمة سيئة؛ سنحرمكم من العدو، كان ألكسندر يقول: إنه بنهاية صدام حسين في حرب الخليج الأولى ستفقد أميركا والغرب كثيراً من الحيوية. غير أن تفكك الاتحاد السوفياتي وانهيار الشيوعية كان الأسوأ وأصبح لزاماً على الغرب البحث عن عدو جديد ووجد ضالته في الخطر الأخضر أو الإسلام الراديكالي وكانت أعظم تجليات هذا العداء بعد أحداث 11 أيلول، وأصبح العدو الجديد شرقي الملامح يجمع بين التعصب والتخلف والدموية، وجرى تصنيعه على نطاق واسع وشامل ومخيف، وبمسميات مختلفة لخدمة الأنظمة المحلية والنظام الكوني.
ويعتقد المؤلف كونيسا بأن الدول الكبيرة هي من يملك حق تعريف عدوها وتحريفه في نفس الوقت، لذلك تلجأ إلى وضع مصطلحات تحررها من المسؤولية، فعملية الرصاص المصبوب على غزة أسفرت عن قتل 1400 فلسطيني، وفي المقابل قُتل 14 جندياً إسرائيلياً، وهو ما دفع إسرائيل إلى «تعديل» اتفاقات جنيف التي تفرق بين المدنيين والمحاربين، ما قد يسمح بقتل المدنيين بصورة أكثر شرعية.
كما يؤكد «بيار كونيسا» أنه ليس هناك تصنيف نقي بصورة كاملة بالنسبة للأعداء، ويقدم ثمانية أصناف من الأعداء وهم: عدو الحدود، العدو الكوكبي العالمي، العدو الحميم أوالحرب الأهلية، العدو الهمجي الهلامي الشامل مثل «داعش» والقاعدة، العدو المحجوب أونظرية المؤامرة، العدو التصوري، العدو المفاهيمي، العدو الإعلامي وهو يشكل الحالة الأحدث في الفراغ الأيديولوجي والإستراتيجي لما بعد الحرب الباردة، إذ تتفوق الصورة على النص، ويتم بها تدويل الأزمة. والمقصود بالتدويل هنا:الأهمية التي سيبديها المجتمع الغربي تجاهه، ومدى تسليط الإعلام الضوء عليه، دماء وضحايا ودمار.
ولقد قال روميو دالير، قائد قوات الأمم المتحدة لحفظ السلام: يساوى المراسل الصحافي كتيبة على الأرض، ولذلك فإن العدو الإعلامي موجود أكثر من خلال شيطنته، لا من خلال التهديد الإستراتيجي الذي يمثله.
ويختتم المؤلف الفرنسي: هذا الكتاب ليس كتاباً يدعو إلى السلام، فقد كتب هوبز: «من دون السيف فإن المعاهدات ليست سوى كلمات». ومع هذا فإن دراسة آليات الكشف عن صنع العدو ربما تساعد في استباق أسباب النزاعات وتقليصها.

المادة السابقة
المقالة القادمة

مواضيع ذات صلة

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

أهم الأخبار

فتح ميديا أوروبا