مدينة “إيجر” الساحرة.. ورحلة لا تنسى

بقلم: المحامي د. إيهاب عمرو

لم أكن أتخيل يوماً ما أنني سأقوم بزيارة تلك المدينة الصغيرة الوادعة “إيجر” التي تقع شمال جمهورية المجر، ولعل الصدفة وحدها لعبت دوراً في زيارتي لها، إذ وبحكم إقامتي السابقة في النمسا وجدتها فرصة لزيارة مدن أخرى قد لا تكون معروفة كوجهة سياحية عالمية كغيرها من المدن الأوروبية الرئيسية. وثمة سبب آخر لزيارة تلك المدينة الجميلة قد يبدو غريباً، إذ بينما كنت أقوم في إحدى المرات بشراء تذكرة لركوب القطار من الماكنة المخصصة لهذا الغرض حدث أن لم تقم الماكنة بإرجاع المبلغ المتبقي، ما حدا بي إلى التوجه لمكتب خدمة الزبائن، والذين قاموا بفحص الأمر عبر جهاز الكمبيوتر وتخييري بين إرسال المبلغ المتبقي البالغ 30 يورو عبر حوالة بنكية، أو حصولي على “سندات سفر” أستطيع استبدالها بتذاكر خاصة برحلات دولية عبر القطار، وفعلاً اخترت الحصول على سندات سفر. وبين هذا وذاك، اقترح أحد زملائي المجريين السفر إلى مدينة “إيجر” كونها من أجمل المدن المجرية وأكثرها هدوءا.

عند وصولي إلى المدينة لفت انتباهي شخص يجلس على كرسي وأمامه طاولة صغيرة الحجم يقوم بعرض وبيع أشكال مختلفة لحيوانات وأشكال أخرى مصنوعة من الزجاج. ووجدتها فرصة للسؤال عن أسعارها خصوصاً انني أحب هذا النوع من العمل الإنساني والإبداعي، فأفادني أنها مرتفعة الثمن كونه يقوم بطلائها بالفضة. وبذكاء شديد شغل الآلة البسيطة وأعد قطعة من الزجاج على شكل حصان، ولاحظت ابتداء أنه كان يستخدم صهر أو إذابة القطعة الزجاجية بواسطة النار قبل أن يقوم بتشكيلها يدوياً، ثم يصل إلى مرحلة تبريد الزجاج بشكل بطيء لتفادي تكسره، ثم يقوم أخيراً بطلائها بالفضة ما يضفي بعداً جمالياً آخر عليها، ويجعل منها مرتفعة الثمن كذلك. وأثناء وقوفي إلى جانبه تجمهر بعض الناس حوله مبدين إعجابهم بما يعمل، ثم قام بعضهم بالشراء بعد ذلك. ووجدتها فرصة لإبلاغه بضرورة زيارة بلدة “مورانو” القريبة من مدينة فينيسيا الإيطالية، والتي تشتهر بصناعة الزجاج المصهور. ولا زلت أذكر تلك الزيارة المميزة قبل عدة أعوام إلى “مورانو” برفقة زميل إيطالي كان يعمل أستاذاً في جامعة بادوفا الإيطالية قبل أن ينتقل للعمل في سلطة الموانئ في مدينة فينيسيا، حيث تنقلنا بين مصانعها ومعارضها ما سمح لي بالتعرف أكثر على هذا النوع من المهن والصناعات.

وسمح لي صفاء الجو الاستمتاع بجمال مدينة “إيجر” وسحرها، وأكثر ما أدهشني هو جمال بلدتها القديمة، وبساطة ورقي منازلها التي كانت تتدلى منها بعض الأشجار الصغيرة، وأيقنت عندها أن البساطة رقي وجمال. إضافة إلى جمال ونظافة أزقتها حيث كان السياح يتجولون فيها مستمتعين مسترخين تاركين وراءهم هموم الحياة التي أصبحت أكثر حداثة وأكثر تعقيدا.

في طريق العودة، وبينما كنت أتفحص اللوحة الإلكترونية لمعرفة المكان المخصص للقطار المغادر، وجدت بجانبي شخصا كبيرا السن كان يحاول معرفة المكان المخصص لإقلاع القطار، وأبلغني بلغة ألمانية ركيكة أنه يعمل في رش المزروعات والأشجار، وقد بان عليه ذلك بسبب ملابسه وبسبب الآلة البسيطة التي كان يحملها في يده. وقد رافقني طوال الرحلة شارحاً لي سمات عمله، وكذلك أسماء المدن والقرى التي مررنا عليها، ومحاولاً المساعدة ما أمكن. وبنظرة إلى هذا الرجل العامل والخشن والبسيط والمفعم بالحياة تيقنت أن الفروقات بين بني البشر بسيطة جداً حتى مع اختلاف الديانات والثقافات واللغات والمجتمعات، لكن السياسة أحياناً تفرقهم، ما ينبغي معه الحذر من أن تسود ثقافة الكراهية كبديل عن ثقافة التسامح أو أن يحل خطاب الكراهية محل الخطاب الحضاري الإنساني.

مواضيع ذات صلة

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

أهم الأخبار

فتح ميديا أوروبا