غابت السارية وظل العلم مرفرفاً كتب احمد قريع “ابو العلاء”

بعد مرور نحو عقد من الزمان على رحيله، وازدحام الذاكرة بالعديد من الاحداث والنوائب والوقائع المثيرة للاسى، على المستويين الخاص والعام، ظلت ذكرى الراحل الكبير محمود ابو الزلف حاضرة لدي بقوة، على نحو ما هي عليه لدى ذويه واصدقائه، والكثيرين من ابناء القدس خاصة، وابناء شعبه الفلسطيني عامة، وكأن شمس هذا الصديق الاثير على قلوب محبيه، تأبى الغروب عن سماء المدينة التي عاش ومات فيها، فيما تواصل القدس صحيفته وابنته الكبرى اشراقها البهي مع طلوع كل نهار.

ولم لا، وصحيفة القدس التي اسسها الراحل ابو مروان، وترأس تحريرها جل عمره، وظل حارسها الامين طوال عمره، تصدر كل يوم بانتظام، رغم الصعاب والقيود والتحديات التي تنوء بحملها الجبال الراسيات؟ وهل من مبالغة في القول ان محمود ابو الزلف لا يزال يملأ المكان والزمان المقدسي بابهار؟ وكيف نكون مبالغين اذا قلنا ان السارية التي ارسى قاعدتها صاحب القدس غابت عن الاعين، الا ان العلم الذي كان يخفق في اعلاها لا يزال يواصل الخفقان؟

لقد حرصت خلال سنوات العقد الذي انقضى على رحيل الصديق محمود ابو الزلف، ان اكتب في ذكرى وفاته، ليس من اجل اجترار ألم الفراق وزمهرير الغياب الابدي، وانما من اجل التذكير بمآثر الراحل الوفي، واستعادة بعض الصور والمحطات والمواقف، التي ينبغي ان تظل تملأ القلوب والعقول لدى الاجيال الصاعدة، حية في الوجدان العام، متقدة كالجمر في الضمير الفلسطيني العام، الذي شارك ابو مروان، مع غيره من المناضلين والمثقفين، في ايقاظه من السبات الوطني الطويل.

لقد تعرفت على محمود ابو الزلف في وقت مبكر من العمر، وكان ذلك قبل احتلال القدس عام 1967، حيث لمست في اعطاف هذا المقدسي النبيل رجلاً صلباً ممتلئاً بالغيرة الوطنية، ومفعماً بروح الاخلاص لمدينته وقضيته شعبه، ثم توطدت العلاقة الشخصية فيما بعد، ولم تنقطع الا بعد ان وقع الاحتلال، حيث ظل ابو مروان مرابطاً على ثرى المدينة المقدسة، منافحاً عن قبابها واسوارها ومقدساتها وابنائها، فيما اخذتني دروب الحياة، ومقتضيات النضال، بعيداً عن مدينتنا التي تهفو لها قلوب ملايين العرب والمسلمين جميعاً.

بعد العودة من المنفى استعدت تلك العلاقة التي لم تنفصم روحياً، ولم تنقطع عقلياً على مدى السنوات الطويلة، فوجدت هذا الصديق الذي ظل منخرطاً في هموم مدينته وقضية شعبه، تماماً على نحو ما عرفته من قبل، شعلة وطنية، وقامة اعلامية، وشخصية فلسطينية تحظى بالاحترام والتقدير الواسعين، لم تفت في عضده متاعب اصدار القدس ولم تنل من عزيمته سطوة الاحتلال البغيض، فوجدته على نحو ما عرفته من قبل، مناضلاً بالكلمة، صادحاً بالصوت من على المنبر الاعلامي الشاهق، الذي بناه بالصبر والجهد والعطاء، حجراً فوق حجر، الى ان بات معلماً من معالم القدس.

وها نحن اليوم في ذكرى رحيل الصديق محمود ابو الزلف، نستعيد ملامح سيرة حافلة بالمواقف الوطنية المشرفة، ونحتفي ككل عام براية مرفرفة من رايات الاعلام الفلسطيني، وشيخاً كبيراً من شيوخ هذه المهنة التي كان ابو مروان واحداً من روادها الطليعيين، اذ يكفيه ان اسس صحيفة القدس، وثابر على تطويرها، وسلّمها الى ايدٍ امينة، مخلصة، كي تظل الصحيفة التي يشرفها ان تحمل اسم المدينة المقدسة، تتبوأ المكانة الاولى في عالم الصحافة الفلسطينية الى يومنا هذا.

واحسب ان دائرة الذين يستذكرون الراحل العزيز في هذا اليوم، لا تقتصر على ابنائه واحفاده، واعضاء اسرته الصغيرة، وانما تتسع للكثيرين من اصدقاء محمود ابو الزلف، ومحبيه، ومعارفه، وقراء صحيفة القدس، وغيرهم من ابناء المدينة الخالدة، وعموم ابناء فلسطين، هؤلاء الذين حينما يستذكرون هذا الرجل، فإنهم يستذكرون الكلمة الشجاعة، والمواقف الوطنية، والسيرة الحميدة، والاثر الطيب الذي تركه لنا ابو مروان، وفي المقدمة من ذلك كله هذه الصحيفة الغرّاء، وهذا الرهط المميز من تلاميذه الصحفيين.

كان المرحوم ابو مروان، شأنه في ذلك شأن أصحاب الكلمة الحرة والموقف المبدئي الجريء، صاحب دور ريادي مشهود له ومعترف به, فقد حمل بين يديه جمرات الكلمة الملتهبة، وسار في دروبها الطويلة المثقلة بالأغلال، غير ملتفت إلى التقولات، ولا عابئ بالأخطار، مبشراً برسالة الصحافة الوطنية الصادقة، مدافعاً عن فلسطين بالرأي والكلمة، في وقت كانت فيه الكلمة النظيفة موقفاً نضالياً مكلفاً، لا يقدر على قولها غير قلة قليلة من الرجال الأحرار المدركين لحقيقة أن كسب معركة استنهاض الجماهير، وبث الثقة لديها بمستقبل فلسطين، هي المقدمة الأولى لكل معارك الحرية والاستقلال اللاحقة فيما بعد.

لقد كانت القدس وما تزال الى اليوم، صوت المدينة المقدسة، بل صوت فلسطين المقاوم، وفيما مضى من زمن المنفى الطويل كانت هذه الصحيفة الغرّاء، بالنسبة لنا نحن المبعدين والمهجرين في ديار الغربة، صلة وصلنا بالوطن وبالشعب في زمن ما قبل الإنترنت، نقرأ ما تيسر من أعدادها القادمة لنا، ولو بعد أيام من صدورها، كل ما كانت تحتويه من أخبار وتعليقات، بكل شغف وترقب، لنرى فيها بعضاً من تفاصيل الحياة اليومية لشعبنا، ونتابع من على صفحاتها أخبار فلسطين المثقلة بالبؤس والبأس معاً، ونسمع من كتّاب أعمدتها الصوت الفلسطيني الذي لا يغيب.

في واقع الامر كانت القدس منبراً لكفاح الشعب الفلسطيني، وأداة من أدوات قوته الناعمة، تصدر مع إشراقة كل يوم جديد، لتعزز في الذاكرة الجمعية الفلسطينية اسم القدس التي تشخص اليها الابصار، ولتؤكد لكل من يعنيهم الأمر، أن هنا مدينة عربية إسلامية خالدة عصية على المصادرة، وأن هنا حاضرة إنسانية عز نظيرها في هذا العالم المترامي الأطراف، مدينة تستحق الخشوع والسلام لا الحرب ولا الأسوار والحصار، مدينة مغروسة في أعماق الذاكرة الوطنية للأمة الكبيرة، إن لم تكن مخزن الإيمان، ومنبع الذكريات القديمة قدم أحجار أسوارها وقبابها المتجلية عبر رجع أصوات المؤذنين والاجراس في فضائها العابق بسحر المكان المقدس للملايين.

وحقا، ودون مراء، فإن صحيفة القدس، هي اليوم اثر مضيء من آثار محمود أبو الزلف العديدة، تؤدي رسالتها بكل أمانة، واحتراف ومهنية، وتصدر يومياً كمرآة بانورامية واسعة، تنعكس على صفحاتها صورة الوطن وهموم المواطن واهتماماته، تحكي حاضره الراهن وتقص عن مستقبله بكل بلاغة، وتتحدث عن الغد الفلسطيني بتفاؤل، تقاوم مع كتّابها وإدارتها وقرائها كل محاولة لتزييف الصورة الفلسطينية الحقيقية، وكل سعي لمصادرة الخطاب الوطني الصادق، أو لتغييب صوت المدينة الأقرب في الأرض من باب السماء، الأمر الذي جعل من القدس الصحيفة الفلسطينية الأولى، على نحو ما يشهد به هذا الإقبال الواسع، وكل هذا الاحتضان الدافئ لها من أبناء الشعب الفلسطيني.

وإذ نستذكر في هذا اليوم الحزين رحيل صديقنا أبو مروان، بكل ما في الذكرى من ألم وحزن وإجلال، فإننا نستذكر مرة أخرى صورة رجل يستحق منا الثناء والتقدير والاحترام، على ما عززته القدس فينا من قيم الصبر والصمود، وما اذكته في ارواحنا من عزيمة على مواصلة التجدد والمثابرة والانطلاق، تماماً على نحو ما تصدر عليه هذه الصحيفة كل يوم، يومية فلسطينية متجددة متطورة، تماثل الصورة الفلسطينية العريضة، ثقة بالنفس، وإيماناً بالشعب، وتمسكاً بالحق، وذوداً عن كل ما يعد به المستقبل الفلسطيني من حرية وكرامة وتقدم واستقلال.

واختم بالقول في هذه المناسبة المثقلة بمشاعر شخصية ووطنية، يختلط فيها التفاؤل القليل بالتشاؤم الكثير، والامل الخافت بالألم الممض الثقيل، وتزدحم فيها الذكريات والمواجع والخيبات، وتتبارى فيها التوقعات المفتوحة على شتى الاحتمالات، فإن اشد ما نحتاجه اليوم، هو التمسك بالثوابت الاساسية، والاعتصام بالصمود والصبر والمقاومة، والامساك بكل فرصة متاحة، والبناء على كل ما حققه شعبنا من مكاسب على مدى السنين الطويلة الماضية، لعلنا نتمكن في يوم نرجو الا يكون بعيداً، من رفع علم الدولة الفلسطينية المستقلة، فوق اسوار هذه المدينة، التي تصدر منها صحيفة محمود ابو الزلف، وتحمل اسمها بكل جدارة واستحقاق.

مواضيع ذات صلة

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

أهم الأخبار

المكتب الإعلامي الفلسطيني في أوروبا