الرئيسيةمختاراتمقالاتفي ذكرى رجل نبيل كتب احمد دحبور

في ذكرى رجل نبيل كتب احمد دحبور

انه رجل دين، بل انه يشغل موقع ارشمندريت للروم الارثوذكس في حمص، وكنت فتى في مقتبل العمر، اتلقى دروسي في الثانوية الغسانية، وقد قادني الطالع السعيد الى بيت صديقي بسام، الذي سيصبح فنانا تشكيليا لامعا عندما يكبر، بعد ان قام بسام هذا برسم صورة عملاقة للسيد المسيح وهو يترجل عن الصليب، كان اكثر ما يبعث الرهبة في تلك الصورة، حبات العرق على وجه المصلوب، وتفاصيل الالوان الساحرة الدقيقة عند ركبتيه، وقد اشتهر في الحي عمل الفنان الصغير الذي ابدع هذا العمل، حتى انه ذات يوم، زارهم السيد مطران المدينة، ومعه لفيف مهيب من رجال الدين، وكان في صحبته الارشمندريت ميصائيل حجار، وبما انني كنت صديقا ملازما لبسام، فقد كنت بين الحاضرين، وهكذا حظيت بمعرفة هذا الرجل النبيل الذي لم يتردد ذات يوم، في ايراد حديث للنبي محمد خلال عظة الاحد، وحين عرف انني ولد مسلم من اصدقاء بسام، رحب بي، وناولني حبات من السكاكر التي كان يوزعها احيانا على ابناء الرعية, وهكذا نشأ نوع من الالفة بين الولد الفلسطيني المسلم ونائب مطران الروم الارثوذكس في مدينة حمص.
الى ذات يوم كادت تقع فيه فتنة طائفية لولا ان تداركها عقلاء المدينة وفي طليعتهم الشيخ وصفي المسدي والمطران جحا والارشمندريت ميصائيل حجار.
ولن انسى ما حييت، عظة الارشمندريت يومها، وقد تجاهل تماما تلك الحادثة المؤسفة، لكنه ومن على منبر الكنيسة – اورد حديث النبي المعروف عندما سأله رجل عن اقرب الناس اليه واحقهم في معاملته، فأجابه الرسول الكريم: امك، فقال الرجل: ثم من؟ ليجيبه الرسول: امك، قال ثم من؟ قال: ابوك.
شهد الله اني سمعت تلك الموعظة، من فم الارشمندريت ميصائيل حجار، في كاثدرائية الاربعين شهيدا في مدينة حمص، وكان هذا امرا طبيعيا من رجل مشهود له بالتسامح والانفتاح، وبالحرص على اقامة جسور المحبة بين الناس بغض النظر عن عقائدهم.
وشاءت المصادفة ان تسمع الكنيسة بالصورة العملاقة للسيد المسيح كما رسمها صديقي بسام، وعرض السيد المطران مبلغا مجزيا لقاء تلك الصورة، لكن خالتي ام بسام اصيبت بالذعر، وهرعت الى الكنيسة باكية، تناشد المطران ان يبقي على اللوحة التي رسمها بسام، فالسيد المسيح هو الراعي الحنون الذي يحرس ابنها الوحيد، وتأثر السيد المطران بالمشهد، فأوعز للاتباع ان يدفعوا ثمن الصورة المقدسة، على ان يحتفظ بسام بها فبسام ولد وحيد، وهو احق برعاية سيد الرعية..!
بعد هذه السنوات الطوال، اتمنى ان تكون صورة السيد المسيح، لا تزال في بيت ام بسام، مع ان بساما قادر على ان يبدع احسن منها، بعد ان تطورت ادواته ونضجت تجربته، لكنه قلب الام.. فما بالك اذا كانت هذه الام هي بيرتا الخياطة التي افنت عمرها لاسعاد ابنها الوحيد: بسام جميل جبيلي؟
على ان موضوعي الاساس، في هذه اللحظات يدور حول السيد الارشمندريت الذي كان نعم المثل في اشاعة ثقافة الاخاء والتسامح وتعميق معنى المواطنة.
وان انس لا أنسى، يوم القى هذا الرجل عظته في المؤمنين، حاضا على التوحد عند لحظة الايمان، انطلاقا من ان الخلق عيال الله، وهو تعبير – لمن يعرف – منقول عن النبي الكريم، ومثبت في صحيح الاسناد.
وربما لم يكن ذلك الرجل النبيل، في حاجة الى بذل مزيد من الجهد لتعميق روح الاخاء في المدينة، فتلك هي حمص.. مدينة التسامح والمحبة منذ ان ظهرت على الخريطة، وتلكم هي سورية التي تعلمنا منذ ان كنا على مقاعدها الابتدائية، انها قلب العروبة النابض، واذا كان لي على المستوى الشخصي، ان افخر بهويتي الوطنية الفلسطينية، فإن لي ايضا وايضا، ان افخر بحمص التي ربتني وانشأتني على ما انا عليه، وزاد من سعادتي انني لم اتشكل في هذه المدينة وحسب، بل درست في ثانويتها الغسانية، حيث كان يستحيل ان تجد فرقا فيها بين تابع هذا الدين او ذاك مهما اوغلت في التفاصيل.
على ان موضوعي هو ازجاء التحية الى الارشمندريت ميصائيل حجار، الذي كان – الى جانب موقعه الروحي – شخصية مثقفة نادرة المثال، حتى انني كنت ازعم اني لو الفت كتابا في بيتي، لاكتشفت انه مطلع عليه.. والى ذلك فقد كان يرشح تواضعا واريحية وحبا للناس جميعا. وفي يقيني ان سورية العربية ما كانت لتسطع في الفضاء العربي لو لم يظهر فيها اهلها الكرام، من ديك الجن الحمصي الى الشيخ امين الجندي الى الشعراء نسيب عريضة وعبد الباسط الصوفي وموريس قبق ومصطفى خضر وغيرهم كثير.
فهل كثير ان يظهر فيها قدس الارشمندريت ميصائيل حجار؟
وها انذا ابدأ في سيرة رجل لاصل الى شخصية مدينة، وما هذا النسغ الا من تلك الشجرة الوارفة فهنيئا لمن اتيح له ان يستظل بفيء حمص الحميم..
هل هو الوفاء؟ هل هي نوبة حنين؟ ام انه اعتراف لصاحب الفضل بفضله؟ الارجح ان العرفان يقضي بالامتنان لذلك جميعا، ولن انسى – وكيف؟ – طلة الارشمندريت المهيب والانموذج الفريد الذي يقدمه التسامح والعطاء، واجمل ما في تلك الطلة انها تلوح من غير مناسبة، فاحياء الوفاء لا يتطلب مناسبات، حتى اذا بدا انني ابالغ، او انني ازج القراء في عالم خاص بي، فالله يعلم انني لم افعل سوى ما انشأتني عليه حمص العدية.. ام الحجارة السوداء والقلوب البيضاء، والى قدس الارشمندريت الذي لا اعرف اين هو الآن، اقول: شكرا لذكراك الحاضرة وما اوحته لي سواء أكنت الآن في دنيانا ام في ملكوت الرحمة والمحبة.

أخبار ذات علاقة

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

أهم الأخبار

اخترنا لكم

المكتب الإعلامي الفلسطيني في أوروبا