معين الطاهر و«الكتيبة الطلابية» كتب صقر ابو فخر

ما برحت سيرة «الكتيبة الطلابية» في حركة «فتح» تنعش ذاكرة جيل بكامله، وتُحفِّز كثيرين على رواية جوانب من هذه التجربة الفريدة. وما زالت حكايات عبد القادر جرادات (سعد) وجورج عسل (أبو خالد) وعلي أبو طوق وطوني النمس وأحمد القرى وأمين العنداري (أبو وجيه)، تلهب مخيلة كثير من الشبان الفلسطينيين واللبنانيين حتى اليوم، وتضفي صوراً أخاذة على النضال الفلسطيني في مرحلته اللبنانية. وسيرة «الكتيبة الطلابية» مثل سيرة أي منظمة فلسطينية، هي سيرة الشهداء التي لا يكفّ عن سردها مَن بقي حياً في هذه التجربة الطويلة. وكم هو مؤلم حقاً هذا الأمر، فالنتائج، بعد خمسين سنة من الكفاح المســـلح، لم تكن متناســــبة مع التضحيات الجــــبارة، كما لو أن هناك هاتفاً يهـــتف ولو بحياء وتحفظ: هل ذهب الشهداء هباءً؟

تجربتان من الأمس
ثمة تجربتان في مسيرة النضال الفلسطيني المعاصر، هما: «قواعد الشيوخ» في الأردن (عبدالله عزام وأحمد نوفل وذيب أنيس) والكتيبة الطلابية. الأولى، «طنطن» الإسلاميون بها كثيراً، مع أن قيمتها كانت هامشية ومحدودة جداً، والثانية لم يُكتب عنها إلا القليل، مع أن أهميتها كبيرة حقاً. وفي الآونة الأخيرة، أصدر فتحي البس ذكرياته عن هذه التجربة بعنوان «انثيال الذاكرة» (عمان: دار الشروق، 2008) ورد عليه محمود شريح بكتاب نقيض وَسَمَه بعنوان «اعتلال الذاكرة أو الهذيان النوستالجي» (بيروت: دار نلسن، 2009)، ثم أصدر شفيق الغبرا (جهاد) كتاباً شائقاً بعنوان «حياة غير آمنة» (بيروت: دار الساقي، 2012). وها هو الياس خوري وميشال نوفل يستلان الكلام من لسان معين الطاهر ويصدرانه في كتاب عنوان «حوار مع معين الطاهر» (بيروت: منشورات ضفاف، 2015). وهكذا تمكّن أطول شخصين في حركة «فتح» من تدوين ذكرياتهما المفعمة بالأمل والألم معاً، محمد داود عودة (أبو داود) في كتابه «من القدس إلى ميونيخ» (بيروت: دار النهار، 1999)، ومعين الطاهر في هذا الحوار عن الكتيبة الطلابية وعن تأملاته في هذه التجربة.
برع هذا الحوار في جعل الشهداء يتحرّكون أمام مخيلتنا مجدداً، وأعاد الألق إلى أسماء ناصعة كادت وقائع الأحوال أن تردمها في غياهب الذاكرة ولو مؤقتاً، وراح هؤلاء الشهداء يتقافزون أمام أعيننا بحبور غامر. غير أن الواحد منا يُصابُ بالوجوم بعد أن ينتهي من قراءة آخر صفحة في هذا الكتاب، لأن معظم الأسماء الواردة فيه، وجلّهم من الأصدقاء، صاروا شهداء أو أمواتاً، أو فرّقتهم أيدي سبأ في كل مكان، وانتهوا إلى مصائر متنافرة أمثال عبد القادر جرادات (سعد) شهيد معركة البرجاوي في 26/6/1976، وعلي أبو طوق وجورج شفيق عسل ونعيم وحنا ميخائيل (أبو عمر) وطوني النمس ومحمد شبارو وحماد حيدر وجمال القرى وأيمن برقاوي وحسان شرارة وسمير الشيخ ونعيم الوشاح، علاوة على مَن رحل أمثال هاني فحص ومحجوب عمر ونظير الأوبري وهلال رسلان (أبو محمود) وكثيرين غيرهم.

الحكاية الفريدة
بدأت فكرة تشكيل السرية الطلابية فور وقف الاشتباكات التي اندلعت بين الجيش اللبناني والفدائيين في 2/5/1973، وتبلورت الفكرة أكثر فأكثر في سنة 1974 غداة صدور «برنامج النقاط العشر» الذي يلمّح إلى إمكانية التسوية مع إسرائيل. آنذاك كان الطلاب المعارضون لهذا البرنامج وللخط السياسي لقيادة «فتح» يسلّطون مكبرات الصوت نحو مكتب ياسر عرفات الذي لا يبعد عن سور جامعة بيروت العربية أكثر من 50 متراً، وفي آخر الليل يجتمعون إليه ويناقشون معه الشؤون الســــياسية ويختلفـــــون ويتصايحون، ثم ينام عرفات تحت حراسة بنادق هؤلاء الذين يشتمون المشروع السياسي له (ص. 25).
وتألفت السرية بالفعل في صيف سنة 1975 فور اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، وكان قائدها الأول عبد القادر جرادات (سعد) الذي استشهد عند برج الناصرة في بيروت في 25/6/1976 ولم يُعثر على جثته التي مثّل بها الكتائبيون أبشع تمثيل. واعتُبرت هذه السرية من تشكيلات الميليشيا التي كان يقودها جواد أبو الشعر، ثم تحوّلت إلى كتيبة، وأُلحقت بقوات القسطل، وكان قائدها الثاني معين الطاهر. وبرز من قادة هذه الكتيبة علي أبو طوق المولود في حمص سنة 1950، والذي التحق بحركة «فتح» في الأردن سنة 1967. وبعد معارك أيلول 1970 جاء إلى بيروت وكان مسؤولاً عن الطلاب الثانويين مع أنيس النقاش ثم سعود المولى، وقاتل في جميع المناطق اللبنانية، وهو الذي خطط ونفذ عملية الباص في عاليه سنة 1983 ضد القوات الإسرائيلية، ثم قاد معارك الدفاع عن مخيم شاتيلا في الحرب على المخـيمات، إلى أن استشهد اغتيالاً في 27/1/1987.
شعاران بدائيان سادا في أوائل سبعينيات القرن المنصرم هما: «زغرِد يا رصاص واخرس يا قلم» و «القرار ينبع من فوهة البندقية». غير أن التيار الفكري والسياسي الذي نشأت «الكتيبة الطلابية» في سياقه راح يشدّد على الثقافة خلافاً لهذين الشعارين وأمثالهما. ومن طرائف تلك الأيام أن المفوض السياسي للكتيبة عرض في أحد الاجتماعات تقديراً للموقف، يجزم فيه بأن إسرائيل غير قادرة على القيام بأي هجوم على المقاومة الفلسطينية، لأن أميركا لا ترغب في ذلك.
وما هــــي إلا لحظات حتى كانت الطائرات الإسرائيلية تغير على مقر قيادة الكتيبة، فانبطح الجميع. وفي معمعان القصــــف قال مروان كيالي للمفوض إن تقديره للموقف كان خاطئاً كلـــــياً، فردّ المفوض بالقول: أنا تحليلي صحيح، لكن ماذا أفعل إذا كان بيغن حمار ولا يفهم السياسة (ص. 81).
اتسمت الكتيبة الطلابية بالميول الماوية، وكان قيدوم هذا الميل منير شفيق (أبو فادي). وكان هلال رسلان (أبو محمود) صاحب شأن محوري في تطوير التيار الفكري للكتيبة، وكان ماوياً وسفيراً سابقاً لسوريا في الصين، ويطمح مع رفاقه في جبل لبنان الذين عملوا تحت اسم «اللجان الوطنية» إلى تأسيس حزب شيوعي عربي ذي أيديولوجية ماوية. وعلى هـــذه الخُطا سار عصمت مراد الذي كان قيادياً في اتحاد الخلايا الماركسية ـ اللينينية، قبل أن يبدأ التحول التدريجي إلى الإســــلام. وفي إحدى المراحل، كان ناجي علوش منضوياً في الفــــضاء العام لهذا الخط، وإن لم يكن له أي شأن في هذه التجربة بعدما انفصــــل عن منير شفيق ليؤســــس مع توفيق الهندي (نبـــيل عون) وآخرين ما عُرف بـ «الحركة الشعبية العربــية» الهزيلة.

انفراط السُبحة
في أواخر سبعينيات القرن المنصرم، كتب منير شفيق مقالة بعنوان «موضوعات حول المرأة». وقد أثارت هذه المقالة جدالاً حامياً في صفوف الكتيبة التي وجد فيها كثيرون قدراً من الانعطاف نحو الإسلام. ورويداً رويداً بدأ «خط الشعب وخط الجماهير» الذي كثيراً ما كان يرفض أن يحيد عن المقولات الماوية ولا سيما فكرة «التناقض الرئيسي والتناقض الثانوي» يتحول نحو الإسلام السياسي. وتعزز هذا التحول بعد انتصار الثورة في إيران سنة 1979 واستيلاء رجال الدين على السلطة بعد القضاء على اليساريين والعلمانيين والشيوعيين. وكان من عقابيل هذا التحول أن معظم المسيحيين اللبنانيين والفلسطينيين، علاوة على الماركسيين، غادروا هذه التجربة إلى غير رجعة. وهكذا انطوت هذه التجربة الفريدة في أشخاصها وممارساتهم وصمود رجالها وبسالتهم وأخلاقهم، وكانت معارك سنة 1982 خاتمة المطاف، فسقط من الكتيبة 50 شهيداً، ولم يؤسر أو يستسلم أحد (ص. 110)، وقاتلت مجموعة قلعة الشــــقيف بقيادة يعقوب سمور (راتب)، وكان عددها 34 فدائياً حتى النهاية، فسقط منهم 30 شهيداً. لكن، في خضم هذه التجربة، وبالتحديد في سنة 1983، ولدت فكرة «سرايا الجهاد» (سجا) التي افتتحت أولى عملياتها العسكرية في سنة 1985 ضد جنــــود إسرائيليين أمــــام حائط البراق في القدس، الأمر الذي يؤكد أن قضية فلسطين مثل قطار لا يتوقف، غــــير أن هناك من يصعد إليه وهناك مَن ينزل منه في كل محطة.

ملاحظات
في هذا الحوار الشائق الذي جاء قطعة واحدة طويلة بلا فصول، وبلا قائمة محتويات أو فهرس، أو حتى هوامش إيضاحية وتفسيرية، يروي معين الطاهر جانباً من «المسكوت عنه» في التجربة الفلسطينية في لبنان. والمسكوت عنه هو المعروف تماماً، لكن لا أحد يذكره مثل عملية سهل عميق ضد الجيش الإسرائيلي في 23/6/1982 التي نفّذها مقاتلو «كتيبة الجرمق» (الكتيبة الطلابية سابقاً)، وعملية باص عاليه التي خططها علي أبو طوق ونفذها مع مناضلي الجبل من مجموعة هلال رسلان، وعملية باص عرمون، ومعركة قبر شمون ضد الجيش اللبناني آنذاك، ويسرد تفصيلات عملية رويسة البلوط التي قادها عيسى حجو وبعض مقاتلي الجبل بإشراف محمود العالول، والتي أُسر فيها ثمانية جنود إسرائيليين من دون إطلاق رصاصة واحدة. ويحدثنا عن بعض طرائف علي أبو طوق، فقد كان ينام في اجتماعات قيادة الكتيبة الطلابية لشدة تعبه. بيد أننا لا نعثر على قصة اغتيال سعد صايل (أبو الوليد) في سهل بعلبك والتي اتُهم فيها كثيرون من بينهم زكريا حمزة ومحمود أبو حمدان وشاكر شكر ومهــــدي شرف وحسين شمص ونضال الديراني وحسين طليس (أنظر: اللواء محمود الناطور، حركة فتح بين المقاومة والاغتيالات، عمان: الأهلية للنشر، 2014، ص 730). وكذلك لا نعثر على قصة نجم نجم الــــذي قيل إنه فرّ من سجن رومية وتسلل إلى تل الزعتر وقاتـــل مع أبنائه المحاصرين حتى سقــــوطه في 12/8/1976، ثم تمكن من الوصول إلى بيروت واختفت آثاره نهائياً. ومـــا يشفع لبعض جوانب النقصان في هذا الحوار أنه ليس تأريخاً، بل مقادير من الذاكرة تشتـــبك مع التاريخ وتمده بالوقائع والمعلومات، لكنها لا تحل محله.

جريدة السفير

مواضيع ذات صلة

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

أهم الأخبار

المكتب الإعلامي الفلسطيني في أوروبا