الصندوق الأسود لـ”سماسرة التنسيق”.. إستغلال الناس بحجة “غياب الرواتب”

“البوابة السوداء” أو “معبر رفح” جنوبا، الذي يخنق مليوني فلسطيني يعيشون في شريط ساحلي ضيق، تحده من الشرق ومن الشمال الجدران الإسرائيلية، ومن الغرب بحر يحمل فوق أمواجه زوارق وبوارج مدججة بالسلاح، تصب على نار الحصار حصارا، وتذيق اللاجئين المشردين فقرا وتجويعا، ولا ترحم شيبة عجوز غيّرت معالمه نوائب الدهر، ولا صرخة طفل ضاقت به الدنيا، ولا
استغاثة مريض فتكت به الأوجاع..معبر

هو المتنفس الوحيد للمحاصرين، حيث يذل الغزاوي، ولا يسلم من ظلم ذوي القربى، فالكل ينهش ما استطاع إلى ذلك سبيلا، تحت مسميات التنسيق، الاسم الجديد للرشوة، استغلالا لحاجة المرضى والطلبة وأصحاب الأعذار الذين صار الخروج من المعبر أقصى أمنياتهم.. فيفتح كل دهر من الزمن يوما أو يومين، ثم تعود المناكفات لتظهر أطماع الطامعين في السيطرة على البقرة الحلوب.

هل تريد الخروج من معبر رفح؟ عليك أن تدفع.. ألف لا تكفي.. ألف وخمسمائة لا تفي بالغرض.. ألفان من الدولارات مع المراعاة التامة تدفعها لضابط بيده مفاتيح ما يسمى بالتنسيق، تضمن لك عبورا آمنا، وإلا فلن يشفع لك أهل الأرض كلهم، وستموت متأثرا بمرضك، وسيضيع مستقبلك،.. باختصار القانون اليوم عند الجميع: إدفع بتطلع”.

هي بداية تحقيقنا هذا، والذي تعمقنا فيه وكشفنا خلاله كثيرا من حالات الرشوة والواسطة والفساد التي يغرق فيها متنفذون في داخلية غزة، خاصة من المسئولين عن المعابر، يتعاونون مع ضباط مصريين ومسئولين في سلطة رام الله، الأمر الذي يكشف مدى التواطؤ بين هذا الثلاثي في مضاعفة معاناة الغزيين، بلا رحمة ولا رأفة.

رشوة للتنسيق

“تنسيق”.. هو اسم تجميلي مُدرج في وسائل الإعلام، وأصبح مستخدما عند الجميع، لكن خلف كواليسه هو ليس إلا رشاوى يدفعها من لا يملك لمن لا يستحق، للخروج عبر “البوابة السوداء”، ويتنفس هواء يختلف عن هواء الحصار..

الشاب خالد أحمد -اسم مستعار- ذكر, أنه عانى 4 أشهر وهو يحاول عمل تنسيق للخروج من معبر رفح، ليسافر إلى دولة أوروبية بحثا عن فرصة عمل يؤمّن بها مستقبل أبنائه.

وأوضح أنه التقى العديد من الأشخاص الذين تعهدوا بحل مشكلته وتسهيل أمور سفره، لكن دون معرفة من يكون هذا الشخص، وكان يدفع لأي شخص يلتقيه حوالي 200 دولار، حيث لم يخف أنه التقى مؤخراً ” ضابط في أبو خضرة ودفع له حوالي 1800 دولار”، كي يقوم بتجهيز أوراق السفر الخاصة به.

ويعلّق بالقول: لو لم أفعل ذلك لن أسافر أبدا”.

وخلال عام 2015 الذي شارف على الانتهاء، لم تفتح السلطات المصرية المعبر إلا 20 يوما على فترات متباعدة.

مستعد للدفع

لم تختلف كثيراً قصة الشاب محمود سعيد -اسم مستعار- الذي يقيم في المملكة العربية السعودية عن سابقه، والذي قدم إلى غزة لحضور حفل زفاف شقيقته قبل أشهر، ليبين أنه تفاجأ بإغلاق المعبر وقد اقترب انتهاء صلاحية إقامته من البلد التي يسكن فيها.

يقول سعيد: لم أكن أعلم أن الأمر سيتعسر هكذا، فقد أتيت لغزة لحضور زفاف شقيقتي الصغرى، فتفاجأت بإغلاق المعبر، وصرت أركض هنا وهناك وأبحث عن منفذ كي أخرج من تلك الورطة، فذهبت إلى هيئة المعابر وبعدها للشؤون المدنية حتى أخرج عن طريق معبر بيت حانون.. لكن دون جدوى”.

ويضيف: بقي يومان وتنتهي إقامتي، ما الحل؟ بدأت بالتفكير، إلا أنني تعهدت بدفع أي مبلغ لمن يخرجني من غزة، إلى أن أعلنت مصر أنها ستفتح المعبر لثلاثة أيام، وكنت مسجلاً آنذاك ليخرج اسمي في أواخر الدفعات، وهذا يعني أنني لن أغادر القطاع، ومن فوره أخذني ابن عمي لشخص لا أعرفه، ودفعت له مبلغ 4000 دولار، كي يخرجني أنا وزوجتي في الباصات الأولى، وفعلاً بعدما فتح المعبر كان اسمي في الدفعات الأولى”، منوهاً إلى أنه لن يدخل القطاع مرة أخرى بسبب الإهانة التي تعرض لها منذ تلك اللحظة في المعبر، على حد وصفه.

لا تقف الأمور عند هذا الحد، بل للتنظيمات المختلفة العاملة في الساحة الفلسطينية حظ في التعامل بالواسطات والمحسوبيات، استغلالا لعلاقاتها مع بعض الضباط وأصحاب النفوذ في النظام المصري.

وبهذا الشأن، يقول المواطن “أ.الشوا”: حاولت المستحيلات كلها لأسافر وأخرج من معبر رفح إلى بريطانيا، فشلت في كل مرة، إلى أن توجهت لأحد قادة إحدى التنظيمات بغزة، اتصل بدوره على ضابط مصري كبير، وتم تسجيل اسمي ضمن قوائم المسافرين بتنسيق أمن دولة مضمون”.

حالات رشوة

مصادر خاصة وموثوقة في معبر رفح، لم تنكر وجود بعض حالات الرشوة لبعض الموظفين الذين يعملون في المعبر، متذرعين بعدم تلقيهم رواتب رسمية، تلك الحجة التي أباح آخرون من أجلها أيضا القروض الربوية، والتحصل على الأموال بأي طريقة كانت!!

وبيّنت ذات المصادر أن أغلب الحالات التي خرجت في اليومين الأخيرين لفتح المعبر، هم من أصحاب “التنسيقات”، وبعدها دخل العالقون والطلاب وأصحاب الإقامات والأجانب والمرضى”.

ولفت إلى أن هناك مكاتب في غزة، تقوم بالتنسيق، للحصول على آلاف الدولارات من الشخص الذي هو بحاجة ماسة للسفر.

لا ننسق

وسائل إعلام كثيرة نقلت معاناة الغزيين يومي فتح المعبر الأخيرين، إلا أنها سلطت الضوء أكثر على خروج الحالات المنسقة، وابتزاز الضباط المصريين للفلسطينيين المغادرين وأن التنسيقات قد وصلت ذروتها من السفارة الفلسطينية بمصر، لنتواصل على الفور مع السفير الفلسطيني، جمال الشوبكي الذي رفض الحديث عن هذا الموضوع، “كونه غير مخول التصريح لوسائل الإعلام”، حسب قوله.

حاولنا الاتصال بأحد المسؤولين الكبار في السفارة الفلسطينية بمصر، والذي نفى قطعياً تنسيقها لأي شخص، لافتاً إلى أن التنسيقات من جانبهم تكون فقط للطلاب والمرضى وأصحاب التأشيرات، الذين هم بحاجة ماسة للسفر.

وبحسب المسؤول الكبير _الذي فضل عدم ذكر اسمه_ ، فإن حوالي 500-600 طالب كانوا من ضمن المغادرين في الأيام الأخيرة “وهذه الأسماء قدمتها السفارة الفلسطينية بمصر”.

وكشف أن هناك مسؤولين بمستوى وزراء قاموا بالتواصل مع السفارة للتنسيق لهم، مستدركاً: لكننا رفضنا هذا الأمر، وقلنا إننا لا ننسق لأحد”، بحسب تعبيره.

وكشفت إحدى الأيادي المنسقة في غزة، والتي تعمل مع أجهزة أمن السلطة برام الله، “لتجهيز أوراق سفر المواطنين سواء من معبر رفح أو معبر بيت حانون, الآلية التي يقوم من خلالها بالتواصل مع ضباط في سلطة رام الله، لعمل الإجراءات اللازمة.

وأوضح أنه قام بعمل إجراءات تنسيقية لكثير من الحالات التي هي بحاجة إلى السفر من البوابتين “معبري رفح وايرز”، منوهاً إلى أنه يتواصل مع أحد ضباط سلطة رام الله برتبة مقدم، له علاقات واسعة في هذا المجال، بحسب قوله.

وقال المصدر: قبل البدء بعمل أي شيء أستلم مبلغاً من المال لا يقل عن 1000 دولار بحسب إجراءات السفر، وأقوم بتجهيز الأوراق اللازمة، وبعدها أرسلها لشخص في الضفة يُدعي “أبو حنفي” لا أعرف اسمه ولا شكله، ولم أتحدث معه سوى عبر البريد الالكتروني، ومن ثم يقوم بتوصيلها لضابط آخر، ويتواصل معي بعد تجهيز الأوراق، ومن ثم أسلمها لأصحابها وأقوم باستلام باقي المبلغ الذي اتفقنا عليه”.

أسئلة عديدة تجول في خاطر كل شخص، وجههناها لهذا الرجل الذي يقوم بإرسال الملفات والأوراق لضابط رام الله، إلا أنه اكتفى بتلك الكلمات: أنا ما عنديش أي اشي أقوله بعد هيك”.

حكايات كثيرة

“أبو صالح” له حكايات كثيرة في هذا السياق؛ نظراً لكثرة سفره عن طريق معبر رفح لعلاج زوجته، ومن بين الحكايات التي رواها، أن التحويلة الطبية الخاصة بزوجته قد خرجت من وزارة الصحة، وهي بحاجة للعلاج بأسرع وقت، لكن.. يقول مستدركاً: أريد الخروج بأي وسيلة” ليذهب بعد أن أرشده صديق له لرجل موظف في حكومة غزة”.

ويكمل قائلاً: عندما تحدثت له عن مشكلتي قال لي: هل بمقدورك دفع 1350 دولارا، ومضمون خروجك100%؟ فلم يكن أمامي إلا أن أوافق على هذا العرض”، موضحاً أنه خلال يومين كان في مطار القاهرة.

وفي هذا السياق، تؤكد المواطنة أسماء المدهون أنها دفعت لشخص حوالي 800 دولار بعد أن اشتد ألم شقيقها الذي يبلغ من العمر 23 عاماً، والذي يشكو من أورام في الجيوب الأنفية، موضحة أن الاحتلال الإسرائيلي رفض سفره عن طريق معبر بيت حانون.

ولفتت إلى أن الشخص الذي دفعت له المبلغ هو من أجهزة أمن السلطة، لم يستطع مساعدتها البتة، وأنه أخذ المبلغ دون فعل شيء، لكن بعد معاناة كبيرة سافر أخي ليستكمل علاجه”، حسب قولها.

وبحرقة بدت على نبرات صوتها، قالت المدهون: المسئول بس يمرض بسافر مع أول فتحة معبر بعد إصابته بالمرض وبأول باص، والمواطن العادي لازم يموت وهو يستنى حتى لو كان مرضه نفس مرض المسئول ويكون ضحية نبكي عليه ونستغله إعلاميا”.

اتهامات متبادلة

بين حاكمي قطاع غزة المحاصر منذ تسع سنوات والمسيطرين على معبر رفح، وبين سلطة رام الله التي تتهمها الأولى بأنها هي من تقبل الرشاوى وتقوم بعمل التنسيقات، منذ فترة بعيدة.

هذا ما أكده القيادي في حركة حماس، عاطف عدوان، النائب بالمجلس التشريعي، حيث أوضح أن التنسيقات التي تقوم بها سلطة عباس والسفارة الفلسطينية بمصر، بما يخص السفر عبر معبر رفح موجودة وثابتة، إلا أنه نفى وجود شكاوى من أشخاص أو مؤسسات تتعلق بتنسيق بعض الموظفين والعاملين في حكومة غزة بهذا الشأن.

واعتبر النائب عدوان خلال حديثه، عدم وجود أدلة تثبت تورط أحد في غزة بتلقي رشاوى تحت بند التنسيقات، يمنع تحرك المجلس التشريعي ولجانه للبحث في قضايا فساد كهذه، لعمل التحقيقات والإجراءات اللازمة، لافتاً إلى أن “هذه القضايا تبقى إدعاءات لا نستطيع تحويلها لقضية نقاش
حقيقية”.

وقال: نحن في المجلس التشريعي نقوم بالرقابة على كل شيء، لكن في هذا الموضوع بالذات لم ينقل إلينا ولم نسمع، ولم يشتكِ أحد من المواطنين، وأنا شخصياً استمعت لبعض الكلام هناك وهناك حول هذا الأمر، لكنه لا يؤسس لشيء يمكن أن يبني عليه المجلس ولا حتى لجانه”.

وأضاف النائب بالمجلس التشريعي: كنت أريد السفر في آخر مرة فتح بها المعبر، وحاولت أن أتواصل مع الجهات المعنية واستخدمت علاقاتي الكثيرة كي أسافر”، مستدركاً “لكنني لم أفلح بالسفر، وهذه المرة الثانية التي لم أتمكن فيها من السفر”.

أمثلة حيّة

لتؤكد لنا مرة أخرى مصادرنا الخاصة على معبر رفح، أن حالات عديدة غادرت قطاع غزة من خلال تنسيقات عبر أفراد عاملين بالمعبر، مردفة بالقول: أذكر أن هناك امرأة غادرت الصالة الفلسطينية، ولكن الجانب المصري أرجعها لنا، وعندما كشفنا الأمر، وجدنا أن أحد العاملين- معروف عنه الالتزام- أتم لها أمور خروجها مقابل 2000 دولار”.

وأكمل بالقول: عندما بدأنا التحقيق في هذا الأمر، علمنا أن هذا الشاب قام بالتنسيق مع شخص آخر مقابل مبلغ من المال، والشخص هذا مسؤول في شركة جوال، لافتاً إلى وجود حالات كثيرة من هذا النوع على معبر رفح، ومنذ فترة طويلة.

وكان القيادي في حركة فتح، فيصل أبو شهلا قد وجه اتهامات مباشرة وصريحة , لحركة حماس بالتسبب في أزمة معبر رفح، مؤكداً أن الحركة رفضت تسليم المعابر للسلطة والحكومة.

وأشار أبو شهلا إلى أن حماس هي من يعرقل تشغيل معبر رفح، منوهاً إلى أن القاهرة لديها تحفظات أمنية في التعامل مع حركة حماس بشأن المعبر.

وأطلق نشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي وسما بعنوان :”#سلمو_المعبر” طالبوا فيه حركة حماس بتسليم المعابر للسلطة الفلسطينية لضمان فتحه.

ليرد نائب رئيس المكتب السياسي في حماس موسى أبو مرزوق عليه، عبر صفحته على فيس بوك ” أي معبر تريدون استلامه، معبر بيت حانون أم معبر الكرامة؟ أم أي معبر تقصدون؟ لقد نسيتم أن من يدير معبر رفح فلسطينيون، وليسوا قوة احتلال وأن معركتكم مع المحتلين الذين يسلبون سيادتكم على أرضنا”.

هذا ليس إلا جزء من الشهادات الحية وقبلت بالنشر، بعد أن انتشر مصطلح” تنسيقات معبر رفح”.

وللتعرف على هذا الموضوع أكثر طرقنا أبواب مسؤولين رسميين في معبر رفح، وقمنا بالاتصال معهم للاستفسار عن سؤال: لماذا لم تسيطر الجهات المعنية على ظاهرة التنسيقات في بداياتها وقبل أن تستشري وتصبح ظاهرة طبيعية وقانونية؟ لكن للأسف الجميع أغلق بابه وسماعة هاتفه في وجهنا.

تقرير “شمس نيوز”

مواضيع ذات صلة

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

أهم الأخبار

المكتب الإعلامي الفلسطيني في أوروبا