الرئيسيةمختاراتمقالاتالنكبة في الوجود والذاكرة (أرض بلا شعب) (1/4)

النكبة في الوجود والذاكرة (أرض بلا شعب) (1/4)

بقلم: بكر أبو بكر

في ذكرى النكبة التي نستحضرها كل عام يفِد إلى الذاكرة مجموعات من الصور وكأنها بحر متلاطم ما بين تهجير قسري اختلط بمذابح ترويعية، تعاكسها صور خلابة وجميلة لبلاد حباها الله بالخضرة والهواء الحسن والجمال والتنوع البيئي، وتتدافع الصورة متراكضة وكأنك رقم في صفوف اللاجئين الناجين بحياتهم يقطعون الدروب مشيا على الأقدام أو محملين قسرا بالحافلات أو تحت قصف القنابل ينتقلون عبر بحر فلسطين من منطقة إلى أخرى، وتغيب كثيرا عن الذاكرة صور أولئك الغُزاة المعتدين قساة القلوب الذين استمرؤوا القتل فجعلوا من المذابح عنوانا وجعلوا من سياسة التهجير والإحلال وسرقة الأرض سياسة ما زالت كما هي حتى يومنا الحاضر في العام 2016.

الصورة الوافدة المتدافعة ما بين مخيمات البؤس والحزن وطوابير المنتظرين للطعام المقدم من المؤسسة العالمية التي أسهمت في النكبة تكاد لا تنتهي في مخيلتك أثناء استحضار الذكرى، فإن غضبت على عصبة الأمم لك أن تغضب على الأمم المتحدة، وأن غضبت على بريطانيا باعتبارها التي رسخت المشروع الاستعماري الاستيطاني في بلادنا لا يمكنك أن تهمل فرنسا أيضا لاسيما وهما أي الدولتان معا من قسمتا المنطقة في (سايكس-بيكو) عام 1916 ثم في سان ريمو عام 1920 وكأنهم يتعاملون مع صفقة تجارية أو أرض متروكة تضج يوميا بالصراخ معلنة هنا فلسطين العربية، فمهما فعلتم فلن أكون إلا أنا لا كما تريدون.

إعلان قيام الكارثة

لم يمر يوم الجمعة الموافق 14/4/1948 كغيره من الأيام إذ أنه ما أن دقت الساعة الرابعة من عصر هذا اليوم المشؤوم حتى اعتلى (ديفد بن غوريون) منصة الكنيست الإسرائيلي ليعلن: (حقنا الطبيعي والتاريخي بموجب قرار الجمعة العمومية للأمم المتحدة ، نعلن إقامة دولة يهودية على أرض إسرائيل وهي دولة إسرائيل) في سياق مغالطات دينية وتاريخية قديمة وحديثة ربطت بين “المحرقة” النازية التي لا علاقة للعرب والفلسطينيين بها وبين إقامة كيانهم على أرض فلسطين.

في هذا اليوم الذي شكّل الكارثة العصرية للشعب الفلسطيني،وبداية حقبة جديدة من البطولات (يسمى الاسرائيليون المحرقة النازية ” الكارثة والبطولة ” أيضا) التي تمكن فيها ثوار فلسطين ليس منذ النكبة كعلامة فارقة وجرح نازف وإنما ما قبل ذلك وبعدها من تبديد الظلمة من حول سياسات سعت لإذابة هذا الشعب وتحطيم إرادته حيث أن فلسطين أو كما يزوّرون (اسرائيل) (هي أرض بلا شعب) وهم-أي نحن- من (رحلوا وتخلوا طواعية عن البلاد) وبناء عليه قالوا أن (الكبار سيموتون والصغار ينسون) وما كانت كل هذه الهرطقات إلا استمرارا لمسلسل الكذب والخديعة والتزوير الديني والتاريخي والإعلامي في محاولة استعمارية لطمس معالم جريمة اغتصاب أرض ووطن ولجريمة التطهير العرقي في فلسطين وما صاحبها من استعمار وحروب وكارثة حلت بالأمة منذاك وحتى اليوم .

أرض بلا شعب ؟

يُنسب هذا القول المخادع الشهير (أرض بلا شعب لشعب بلا أرض) إلى الكاتب الانجليزي الصهيوني (اسرائيل زانغويل) وعارض المذكور في مقولته المخادعة الكُتّاب والمثقفين حتى الاسرائيليين منهم ، إن التاريخ كفيل بالشهادة فقد لا تكفي آلاف السنين للوجود العربي الكنعاني اليبوسي الفلسطيني غير المنقطع لتقنع المستعمرين الغربيين والحركة الصهيونية باستحالة أن تنطلي الكذبة على أحد ، لذا كان لا بد من الاختلاق على ذات النسق الذي اخترع و ألّف فيه أحبار اليهود روايات التناخ (التوراة وملحقيها)، المشبعة بالأماني والأحلام والأساطير كما يقول عالم الآثارالاسرائيلي (إسرائيل فنكلستاين) وزميله (زئيف هرتزوغ).

إن فِرية (أرض بلا شعب) تعرضت للهدم حتى من مطلقيها أي من قادة الحركة الصهيونية أنفسهم وعلى رأسهم (دافيد بن غوريون) أحد ملوك وصنّاع الكيان الصهيوني الذي اعترف بذلك في أواخر عمره عام 1956م وهو يحادث (ناحوم غولدمان) قائلا (لماذا يعقد العرب سلاما معنا ؟ لو كنت زعيما عربيا يستحيل أن أعقد سلاما مع إسرائيل) ليلقى بالقنبلة التي أذهلت (ناحوم غولدمان) نفسه إذ قال له بعد أن أكد على قناعاته الدينية الرثة بأن الله وعدهم بها ومعقبا بتساؤل وحيرة لكن (هذا كان قديما من ألفي عام) استنادا للتوراة، ثم قال بوضوح (نحن أتينا هنا وسرقنا بلادهم لماذا يقبلون بنا؟) ومع الاعتراف بالسرقة وان متأخرا يظهر اعتراف بأنها ليست بلادهم هم، وعليه فهي حتى بهذا اللسان المحارب ضدنا كانت مأهولة بغيرهم على الأقل لألفي عام.

إن كان قول “بن غوريون” في أواسط القرن العشرين فهناك من سبقه في نقص كذبة (أرض بلا شعب) وهو المفكر اليهودي (آحاد هاعام) من (أحباء صهيون) الذي كتب في الصحيفة العبرية (هامليتس) (سان بطرسبرغ) عام 1891 ليقول بوضوح (لقد أعتدنا نحن في الخارج على الاعتقاد بان أرض اسرائيل مهجورة كليا تقريبا في الوقت الحاضر ، صحراء غير محروثة وأن أي شخص يرغب بشراء أرض هناك يمكنه أن يأتي ليشتري كل ما يريد . ولكن الحقيقة ليست كذلك في البلاد كلها يصعب أن تجد أرضا غير قابلة للفلاحة ولم تفلح بعد …. ) .

هل الفلسطينيون تركوا أرضهم طواعية؟

ولنا أن نتعرض لنقض مقولة أن الفلسطينيين تركوا أرضهم طواعية أوباعوها أوهاجروا بإرادتهم مما انتشر في مرحلة من المراحل –وربما من بعض الأصوات المرجفة حتى الآن-مترافقا مع ألم النكبة واللجوء والتشرد لنشير للتالي :

 عندما تمكنت بريطانيا عام 1839 (أي قبل أكثر من 90 عام من استيلاء بريطانيا على فلسطين) من إقامة قنصلية لها في القدس في ظل الضعف العثماني، لم يكن أتباع الديانة اليهودية في فلسطين يتجاوزون 9700 فرد فقط لا غير.

 بعد أن سمح العثمانيون بعقد صفقات شراء لليهود الغربيين في فلسطين منذ العام 1849 استطاعوا إقامة بعض المستوطنات، ولكنها في جميع الأحوال لم تتجاوز 0.8% من مساحة فلسطين لنسبة يهود بلغت في القرن 19 أقل من 3% من الفلسطينيين العرب أصحاب الأرض، وحتى عندما وصل عدد المستعمرات مع بداية القرن 20 الى 22 مستعمرة لم تزد النسبة وبقيت على حالها رغم تزايد أعدادهم إلى 34000 يشكلون 5.7% من السكان.

 رغم كل الدعم المادي الخارجي والصيحات الاستعمارية ظل عدد اليهود ومساحة الأرض المغتصبة في حدها الأدنى بحيث أنه في العام 1917 وكان عدد اليهود قد تزايد ما بين 60 – 80 ألف ليصبحوا في هاذا العام 7% معظمهم من غير الصهاينة ويملكون 2% من أرض فلسطين.

 كان للسياسة الاستعمارية البريطانية-الصهيونية عمق الأثر في سرقة أرض فلسطين وتسليمها لليهود من جهة، اضافة لدعم الهجرة اليهودية وتشكيل نواة الدولة العبرية القادمة على قدم وساق إذ ارتفعت أعداد اليهود (1919-1933) إلى 12% يملكون 3% من الأراضي.

 وفي فترة الانتداب (الاحتلال) البريطاني المشئوم (1923-1948) تزايدت الهجرة المنظمة المدعومة من حكومة الاحتلال البريطاني لفلسطين لتصل عام 1948 قبل إعلان “بن غوريون” إنشاء الدولة إلى 605 ألف يهودي من أصقاع العالم المختلفة ما يمثل 30% من السكان ، لم يستطيعوا أن يستولوا على الأرض رغم كل ذلك إلا بعد انشاء الدولة وتدمير 531 قرية (أو 400 حسب قائمة الرابطة الاسرائيلية للحقوق الإنسانية والمدنية ) وفي ظل بقاء 150000 فلسطيني تحت الحكم الاسرائيلي، إذ شرد قسرا 800 ألف من مجموع مليون و 400 ألف مواطن فلسطيني حينها.

 يشرح بدقة المؤرخ الاسرائيلي (إيلان بابيه) في كتابيه الثمينين (التطهير العرقي في فلسطين) والعرب المنسيون (فلسطينيو 1948) وأوري ديفيس زميلنا في المجلس الثوري لحركة فتح في كتابه (اسرائيل الابارتهايدية) آليات الطرد والترويع والقتل وسلب الحقوق التي اتبعت جنبا الى جنب في 3 اتجاهات ضد الإنسان وضد الأرض وضد الذاكرة.

يتضح لنا من كل ما سبق أن هذه الارض التي تحتفي بأصحابها العرب الفلسطينيين حتى اليوم ما زالت تسمع ضحكاتهم وهدير أيامهم الصاخبة، وملاعب صباهم وآمال مستقبلهم، ومازالت رغم الهدم والردم والاغتصاب الصهيوني تكذّب مقولة أن الفلسطينيين تركوا بلادهم أو تخلوا عنها طواعية عام النكبة بشهادة الأرض والتاريخ بل وبأقلام البحاثة والدارسين الجدد من المفكرين الاسرائيليين المنصفين أنفسهم.

الحواشي:

[1] لم يكن بني اسرائيل القبيلة العربية اليمنية المنقرضة المذكورة في التوراة شعبا أبدا بل قبيلة في محيط عدة قبائل عربية أخرى، ولم يكن اليهود كديانة شعبا، فلم ينشأ عبر التاريخ ما يمكن تسميته (الشعب اليهودي) أو (شعب اسرائيل) كما لم يكن هناك قط ما يمكن تسميته (أرض اسرائيل)، واليهود الديانة المقيمين اليوم في بلادنا من أعراق وقوميات عدة غالبها خزري روسي اوربي، ولمن يشاء العودة لكتب الكاتب الاسرائيلي (شلومو ساند) وسابقة (آرثر كوستلر)، ولكتابات المؤرخين العرب الكبار أمثال فاضل الربيعي وفرج الله صالح ديب وأحمد الدبش.

[2] ناحوم غولدمان (1895-1982) أحد زعماء الحركة الصهيونية، والمؤيدين للتعامل مع ألمانيا في مرحلة، ورئيس الهستدروت (اتحاد العمال) بعد قيام الكيان، دعا لإقامة الكونغرس اليهودي العالمي، وتولى رئاسته بين 1953 و 1977 وله كتاب هام تحت عنوان مذكرات ناحوم غولدمان، دعا الحكومة الاسرائيلية الى الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية والشروع في مفاوضات معها. توفي العام 1982 في القدس.

[3] لمراجعة كتاب المعضلة اليهودية (التناقض اليهودي) لناحوم غولدمان ذاته، ومقال جهاد الخازن في الحياة 29/12/2014

[4] أوري ديفس، “اسرائيل” الابارتهايدية وجذورها في الصهيونية السياسية، دار الشروق، عمان، 2015 في ص 22

[5] 21. بيان الحوت (1991). فلسطين (القضية-الشعب-الحضارة): التاريخ السياسي من عهد الكنعانيين حتى القرن العشرين. دار الاستقلال للدراسات والنشر. بيروت، لبنان. ط1. ص: 297-298.

[6] مازن قمصية (2011). المقاومة الشعبية في فلسطين: تاريخ حافل بالأمل والإنجاز. المؤسسة الفلسطينية لدراسات الديمقراطية (مواطن). رام الله. فلسطين. ص 48، وص 50

[7] دراسة الباحث عزيز العصا في جريدة حق العودة العدد 75

[8] إيلان بابه، مؤرخ إسرائيلي، ومحاضر رفيع المستوى في العلوم السياسية في جامعة حيفا. وهو أيضاً المدير الأكاديمي لمعهد “غفعات حبيبا لدراسات السلام”، ورئيس معهد إميل توما للدراسات الفلسطينية في حيفا. وقد ألف عدة كتب، أخرى غير ماذكرنا منها: A History of Modern Palestine (تاريخ فلسطين الحديثة)؛ The Modern Middle East (الشرق الأوسط الجديد)؛ The Israel/Palestine Question (قضية إسرائيل/ فلسطين).

أخبار ذات علاقة

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

أهم الأخبار

اخترنا لكم

المكتب الإعلامي الفلسطيني في أوروبا