رأي القدس العربي اللندنية: محمود عباس بمواجهة «العقيدة الألمانية»!

بعد ردود فعل ألمانية شديدة على اتهام الرئيس الفلسطيني إسرائيل “بارتكاب 50 محرقة” قام محمود عباس بتوضيح على ما قاله في مؤتمر صحافي جمعه بالمستشار الألماني أولاف شولتز في برلين، أشار فيه إلى أن الهولوكوست “أبشع الجرائم التي حدثت في تاريخ البشرية الحديث”، وأن إنكار “خصوصية الهولوكوست” مدان بأشد العبارات، لكنه أعاد التأكيد على أن المجازر التي ارتكبتها القوات الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني منذ النكبة “لم تتوقف حتى يومنا هذا”.
قدّم شولتز شرحا لموقف يخص الألمان وحدهم من بين الشعوب يقوم على أن إضفاء الطابع النسبي على “تفرّد المحرقة” هو أمر غير محتمل، وهو باختصار موقف ما يسميه ديرك موسز، أستاذ التاريخ العالمي لحقوق الإنسان، “العقيدة الألمانية”.
في كتابه “مشكلة الإبادة الجماعية” أثار موسز، نقاشا ثقافيا كبيرا حول هذه العقيدة، التي تعتبر تذكر الهولوكوست بوصفه انقطاعة حضارية “الأساس الأخلاقي للجمهورية الألمانية”، ولهذا السبب فإن مقارنة الهولوكوست مع أي إبادات جماعية أخرى (وليس فقط المجازر التي تعرض لها الفلسطينيون)، “هرطقة وردة عن الدين القويم”.
ترتب هذه العقيدة مسؤولية خاصة على ألمانيا حيال اليهود و”التزاما خاصا بإسرائيل” بحيث يصبح أمن الدولة العبرية من مبررات الدولة في ألمانيا!
تفرّق هذه العقيدة أيضا بين معاداة السامية وأي أشكال أخرى من العنصرية، كما تعتبر معاداة الصهيونية معاداة للسامية. لقد استبطن هذه العقيدة، حسب الكتاب، عشرات ملايين الألمان كسبيل لافتداء “ماض آثم”، وتحوّل هذه العقيدة إلى دين سياسي يفسّر مواقف برلين المتميزة عن باقي دول العالم، في خصوص إسرائيل والقضية الفلسطينية.
لم يعد الهولوكوست، حسب هذا الدين السياسي الجديد، حادثا تاريخيا كبيرا بل جرحا مقدسا لا يجوز تلويثه بـ”جروح مدنسة” تخص الإبادات الجماعية الأخرى التي ليس ضحاياها يهود. يصبح الفلسطينيون، وحتى الإسرائيليون غير الصهاينة، حسب هذه العقيدة، في ألمانيا وخارجها “نازيين جددا”، وهو ما يفسّر قرار للبرلمان الألماني يدين حركة مقاطعة إسرائيل عام 2019 في دعوتها لمقاطعة الجامعات الإسرائيلية، ويعتبرها تذكيرا بـ”أسوأ طور من أطوار التاريخ الألماني”. استطاعت هذه العقيدة، التي شاركت في صنعها نخب سياسية أمريكية وبريطانية وإسرائيلية، فرض منطقها على كافة القوى السياسية الألمانية، ومن ضمنها حزب “البديل”، الذي هو التيار السياسي العنصري والقريب من النازية، ومن السخرية التاريخية أن هذه العقيدة تسمح بأن يدين ألمان يسعون لوراثة الاتجاه النازي في العنصرية، الفلسطينيين باعتبارهم “نازيين”!
تعرضت هذه العقيدة “القويمة” لبعض النقد من مؤسسات ثقافية ألمانية تخوفت من أن التفكير في ألمانيا لم يعد حرا فأصدرت مبادرة تدافع عن حرية التعبير والحق في نقد سياسة إسرائيل، كما تتعرض هذه العقيدة لتآكل بفعل التغير الديمغرافي بفعل المهاجرين الجدد وظهور أجيال ألمانية جديدة تدرك أن العنصرية، وليس معاداة السامية وحدها، مشكلة تتهدد النسيج الألماني.
من الواضح أن الرئيس عباس كان يقصد الدفاع عن شعبه الذي يعاني كل يوم من كافة أشكال الجرائم الإسرائيلية لكن داس، من دون أن ينتبه، على لغم “العقيدة الألمانية” المعقد، الذي يحمّل الألمان مسؤولية الهولوكوست ويسعى لافتدائها بدعم مطلق لإسرائيل، وإذا كان ممكنا، بهذه العقيدة، إشعار الألمان براحة الضمير التاريخي، فمن الضروري، مع ذلك، تذكيرهم بأن العنصرية ومعاداة السامية ليسا حادثين مفترقين، وأن التمييز ضد المهاجرين، وتجاهل مأساة الفلسطينيين، ليسا حلا عادلا أو تسوية تاريخية يمكن لألمانيا أن تقوم عليها.

مواضيع ذات صلة

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

أهم الأخبار

المكتب الإعلامي الفلسطيني في أوروبا