انتهى البث …

كتبت: مها غالب مطاوع

أَقِفُ في المُنتصف تماماً ، الرؤية مُشوشة تُغطيها طَيّات الغُبار إثَر القَصف ، طنينٌ في الأذنين يُرهِقُ حتّى الأصمّ ، أنظُرُ يَميني فأرى قِطع ، أشلاء بشرية ، دليل على أن هذا المكان سُكِنَ من قَبل بالبشر و لكن شيء ما حدث لهم ! ارتديتُ خوذتي جيداً و حملتُ المايكروفون و بدأت أركضُ دونَ وِجهة، وصلتُ إلى المشفى لا أدري كيف ، لكن !! ما الذي حدث هُنا ؟! بربِّ الخَلق !! أَهذهِ هيَ الجحيم؟ أَهذه جَهنَّم ؟! مَشفى دُونَ مَلامح المشفيات كأنما رُسمت مَلامِحُها بالدم، أطباء يركضون هُنا وهُناك، و أكوام الناس المُصابة، أطفال و نساء و شيوخ و رجال، كبار وصغار، أطفال رُضّع يبكون، عَجِزَ لِساني عن وَصف هَول المنظر، أنظر حولي و أقول : يا رب رُحماك !!

نظرتُ يَمنةً فرأيت رجلاً يُعانِق حفيدته الشهيدة و يقول : هذه روح الرّوح !! طِفلٌ يجثي فوق جسد والدته الذي فَقَدَ مَلامح الإنسانية و يبكيها !! أُم تَصِف ابنها لعلّ شخص ما رآه فتقول: ابني يوسف ، عُمره سبع سنين ، شعره كيرلي أبيضاني وحلو ، لم تَقُل غيرَ ذلك حيث أنها وجدت ابنها بين جثث الشهداء لكن من فِرط التشوّه لم تُعرَف مَلامِحهُ !! طِفلٌ لم يتجاوز الخمس سنوات واقفاً يرتَجِفُ وَحده ، اجتمع الأطباء حوله يسألوه ماذا حصل؟ و كيفَ يُجيب ؟ فلسانُه لا يَقوى على الكلام و رجلاه ما عادت تحملانه ثم قال كَمن ابتلعَ قلباً فجأة : كنت نايم و فجأة صار القصف ، ثم بكى ، و بكيتُ أنا مَعهُ ، احتضنه الطبيب وحاول أن يُطمئن قلبه و لكن كيفَ تُفسَّر هكذا صدمة لطفل في عُمره؟!! قرصتُ نفسي لأتأكد أن هذا ليسَ حُلم و أني أعيشُ واقِعاً فما وَجَدتُ إلا صوتُ غارات جويّة قريبُ كأنه مُندلع من بُركان قلبي و النّاس تَهرَع تَحمل أولادها و تَركض و لكن إلى أين ؟! طوَّقَ الحِزام الناري المشفى و استُشهِد المئات و الآلاف ، استُشهِدَ جميع مَن في الخارج و النازِحون في الخيام حول المشفى أصبحوا كُتَلَ لَحمٍ مُتناثِرة ! نعم قَصَفوا المشافي و البيوت و المدارس و الجامعات و المساجد والكنائس ، قتلوا الطفولة و الأحلام والحُب و العائلة ، قتلوا كُل مُسببات الحياة!!!

هَرولتُ مُسرعَاً و قبضتُ حفنةً من تُراب وَطني لأروي عَطَش فُؤادي لنسمة هواء و حَفنة تُراب من غزّة ، و نظرتُ إلى يدي فوجدتُها حمراء مَعجونة بالدم الأحمر الطّاهر ، نَظرتُ حولي نظرةً خاطِفة ، لا أرى سوى دُخان و غُبار و أُناس يَركضون مُسرعين إلى المشافي و أطفال ونساء يبكون جوعاً و رجال يأنّونَ قَهراً على حالهم و عائلاتهم و على ما فقدوه ، مُتَيَّمون بِحُبِّ وطن حنون ، يأبون تَركه و يفدونَهُ بكلّ ما يَملِكون فالرّوح و الجسد و الوَلد و البيوت و كل ما لديهم فِدا تُراب الوطن .

ثم استعدتُ ما بقيَ فيّ من طاقة و نَهضتُ و قُلت :
أعزائي المُشاهدين ، اليوم لستُ بقادرٍ على الترحيبِ بِكم كالعادة ، فكما تَرَونَ وَجهي مُتعَبٌ و الليلُ تحت عُيوني أَعلَنَ ظهوره ، قسمَاتُ وَجهي توحي بالتّعب فاعذروني ، لستُ كما اعتدتم عليّ و لكن الظروف حكمت هكذا … ، و كَما تَسمَعون صوتي مُتَحشرِج مليءٌ بالنحيب ، يكادُ يغرقُ في بَحر من الدُموع ، ترتجفُ أحبالي الصوتية مُعلِنة استسلامها عن قدرتها على التمثيل ، فيَخرُجُ صوتي كَ بُكاء الأطفال ، بَحّة طفولية تَخرُج لتُوهم المُستَمِع بأن هذا ليس إلا صوت بريء ضعيف ، و كَما تَرونَ يداي ترتجف على الرغم من أني لا أشعر بالبرد ، اعزائي المشاهدين :

أزفُّ لكم اليوم خبرَ استشهاد ما يُقارب الثلاثون ألفَ مُواطن فلسطيني في مدينة غزّة، ثلاثون ألف روحٍ طاهرة رحلَت لجوارِ رَبها ، ثلاثونَ ألفَ قصة و ثلاثون ألف حياة ، ثلاثونَ ألفَ جُزءٍ سقطَت من رُوحي ، على يد الجبناء عُراةَ الإنسانية ، متجردون من كل شيء عدا الوحشية والظلم ، على يدان مُلَطّختانِ بالدّم الفاسد , على يد مَن زوالِهم قريب بإذن المولى ، فالحُب الذي قتلوه سيولَدُ من جديد ، و الطفولة التي أعدموها سينشأ مكانها جيلٌ شديد البأس ، الحيوات التي أُخِذت سيُعلَنُ عن إعادتها للحياة و لكن في أجسادٍ مُختلفة ، و كما قيل : كُلُّ لَيمونَةٍ سَتُنجِبُ طِفلاً و محال أن ينتهي الليمون ..

و إلى هُنا سيداتي .. سادتي تنتهي نشرتُنا الإخبارية على أمل اللقاء القادم يكون بث خبر تحرير فلسطين كاملة و دُمتُم بخير و تُصبحونَ على وَطَنٍ مُحرر فلما انتهي البث و نَظَرت إلى وجوه الطاقم وجدتهم جميعهم غارقين في الدموع و يبكون وَطن لطالما تمنوه مُحرراً .

أخبار ذات علاقة

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

أهم الأخبار

اخترنا لكم

المكتب الإعلامي الفلسطيني في أوروبا