الرئيسيةمختاراتمقالاتالغضب الساطع كتب عدلي صادق

الغضب الساطع كتب عدلي صادق

كانت عكا، على مدى قرنين، بقعة التقاء المصائر. عندما حاصرها صلاح الدين، كان رسوله الوحيد الى أهلها، الغوّاص العربي، عيسى العوّام، الذي اختلف المؤرخون على ديانته، وما إذا كان مسيحياً أم مسلماً. لكنهم جزموا بنقاء عروبته.دأب عيسى على مغالبة الموج في كل ليلة، حاملاً رسائل وأموالاً وتوجيهات الى العرب على شاطئ المدينة بعيداً عن عيون الفرنجة. أدى الرجل الأمانة حتى الرمق الأخير، فذهب مع رمية الموج الأخيرة، لجثته، الى حيث ينبغي ان يذهب حيّاً ويسلِّم ما لديه!
لم يجرؤ أحد، على إبلاغ صلاح الدين نبأ استشهاد العوّام. وحده، أخوه الملك العادل، كان قادراً على ذلك. سرعان ما لمعت في عيني السلطان دمعة معلّقة، وبعدما أفاق من نوبة حزن قال: اللهم لا حول ولا قوة إلا بالله، وهل يمكن أن تقاوم عكا، حتى تأتيها جثة أخرى؟!
كانت عكا، روح فلسطين النابضة الصامدة في تلك البرهة. تتكاثر جيوش غازية جائعة، خارج الأسوار، قادمة من أوروبا عبر البحر. ظل أهل المدينة يتلقون الضربات اليومية ولا ينكسرون. ولأن صلاح الدين، طرد الغزاة من بيت المقدس، أبحرت السفن تحمل الجيوش ومعها الملوك والأباطرة. كانوا يصلون، فيحاصرون عكا، لكن صلاح الدين كان يحاصرهم خارجها، وإن عز عليه طرد الحشود كلها. قال لأخيه العادل: ارسل إلى أهل عكا، الحمام الزاجل، واطلب منهم الصبر حتى يأتي المدد من الخليفة العباسي في بغداد، وقل لهم سوف نفك الحصار!
كان أخوه العادل يعرف الحقيقة، لكنه لم يشأ إغضاب أخيه. فقد أغاظت الخليفة العباسي انتصارات صلاح الدين، ولم يكن في نيته إرسال أي مدد. كل ما فعله، هو إرسال حِملين من زيت الإضاءة، مع إذن لصلاح الدين بأن يقترض من تجار فلسطين، لكي يلبي احتياجات جيشه. وتداعت الأمور، في غياب الظهير العربي، فسلّم أمراء عكا المدينة، مقابل النجاة، وهتف صلاح الدين في حُرقة “لك الله يا عكا”!
خان الغزاة العهد، وأعملوا السيف، واستحال الناس، ناسنا، الى شعب هارب من السيف والخنق. فقد بدأت الهجمة المضادة، وإن كان صلاح الدين قطع للغزاة يداً في القدس؛ نبتت لهم أذرع أخرى في ثنايا الأوطان.
وبعد أن مرت خمسون سنة، لم يستفق خلالها الولاة الفاطميون والعباسيون، على الخازوق، ولم يستنكفوا عن دفع الجزية طلباً لبقاء عروشهم. كان الحال نكبة متفشية، إذ احتل الغزاة القدس من جديد، وظلت في أيديهم أحد عشر عاماً، حتى انتزعها منهم الملك الصالح الذي جلس على عرش مصر.
كان المسلمون قد أدركوا أن السلاطين الخائفين على عروشهم، لا يمكنهم قتل الأخطبوط. فالقادرون على ذلك هم الناس، من فلاحي الريف وربابنة السفن وحرافيش المدن والنجارون وسائر الصناع. فعندما دعا خليل بن قلاوون، من فوق منبر الأزهر، الى استعادة عكا، سرعان ما أعد النجارون المنجنيقات الضخمة التي يحمل واحدها طن حجارة، وصبّ الحدادون أدوات خرق الجدران، وجدل الصيادون حبالاً سميكة، ووضعوا الخطاطيف في أطرافها وزحفوا الى عكا وارتطموا بأسوارها، فانهار الفرنجة قبل أن يحمى وطيس المعركة، واستسلموا!
في غيبة الناس، وتواكلها وتكاسلها؛ تفقد الأمم حقوقها وكرامتها، ويعتاش الولاة على أوهام المُلك، لكن الأمور تتردى، حتى تطفح الجماهير غضباً ساطعاً!

أخبار ذات علاقة

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

أهم الأخبار

اخترنا لكم

المكتب الإعلامي الفلسطيني في أوروبا