الرئيسيةمختاراتمقالاتدقيقة صمت - عيسى قراقع*

دقيقة صمت – عيسى قراقع*

بعد مرور شهر على الهبة الشعبية الفلسطينية ضد استمرار وجود الاحتلال، وبعد سقوط 71 شهيدا وآلاف المصابين برصاص جنود الاحتلال اغلبهم من الاطفال والفتيان، وفي يوم 31/ تشرين اول 2015، والموافق 18 محرم 1437 هجري، جرت مراسيم دفن كف القدم اليمنى للطفل عيسى المعطي 13 عاما، والتي تهتكت بسبب اطلاق رصاص الدمدم عليه من قبل جنود الاحتلال.

تحت شجرة زيتون خضراء، وفي مقبرة الشهداء في مخيم الدهيشة ، المطلة على كنيسة مهد المسيح عليه السلام ،والتي تقف على مدى سطح البحر الميت، ومطلة على واد قرية ارطاس الزراعية المروية بماء برك سليمان التاريخية بعد ان تحدت الينابيع جرافات الاحتلال ومستوطناته التي تسرق المياه، واتخذت من الصخور شرايينا تصب في التراب الفلسطيني الأحمر، تم دفن قدم الطفل المعطي، بمراسيم رمزية، وبمشاركة رمزية حادة وصعبة، وعلى لفح هواء بارد يلسع القلب والعينين ويطوح بقطرات البكاء.

دقيقة صمت أمام زيتونة دفنت تحتها قدم طفل صغير سيكبر بلا قدم، استيقظ بعد العملية ناقصا مدهوشا مصدوما، تحسس جسمه لم يجد اصابعه، هناك فراغ تحت الغطاء، رائحة دم وادوية ، بكى وسأل أمه ماذا افعل بخطواتي القادمات؟

دقيقة صمت، اوراق الزيتونة الخضراء ترفرف في النسيم الشتوي المشحون بالموت والاعدامات والجنازات، تحاول ان تحرك الطفل ليجري في براري طفولته من بيته الى المدرسة كالغزال، وتحاول ان تطمئنه بانها ستسقي قدمه بزيتها وروحها لتنمو بسرعة، قالت :سوف احمي اسمك من الموت، وتكون وردا في حديقة الحياة.

دقيقة صمت، الخارجون من المستشفيات الاسرائيلية او من السجون، يعودون الآن جثثا او مبتوري الاعضاء.

دقيقة صمت، يطأ عيسى المعطي ارض الحكاية، لا سمن ولا عسل هنا، الارض رمادية حمراء، والفجر اسود يطول ويطول ، وكل الذكريات واللقاءات الآن قد تأخرت عن مواعيدها ، فالشعب الفلسطيني مشغول بإيقاظ موتاه، وايقاظ يديه وقدميه وعينيه وشدّ الانتباه.

دققية صمت، صغار يسقطون في فلسطين ، اعدامات ميدانية خارج نطاق القضاء، دفاتر المدرسة تتبعثر وسط الدم في الحارات والشوارع، حواجز عسكرية تحولت الى محكمة ميدانية للقتل واستباحة الدماء، والعالم يسمع نبض الدماء في الحصى وعروق المكان.

دقيقة صمت، وعيسى المعطي اوعدته الارض ان يطير بعد قليل، وان يصير حمامة بيدين وقدمين ، وان لا يفرغه الموت من جسده وشهواته وطفولته حتى يستيقظ الاحياء والاموات والحالمون.

دقيقة صمت، هو المذود الاخضر بنجمته الفضية، وكل ما حوله آيات وصلوات وابتهالات، وكل ما حوله رجاء بان ينكسر حصار البيت، ويرتد المحتل الى ثكناته واساطيره، ليمشي الهوينى مثل سحابة عائدة الى القدس، ملأت غيومها بالعباد.

دققية صمت، غرف العناية المكثفة التي تشبه ثلاجات الموتى في المستشفيات الاسرائيلية تمتلىء بالصراخ ، ماذا بعد قليل؟ يسأل الاهل المنتظرين وراء الابواب ، هل يخرجون سالمين ام موتى، يتأخر الجرحى، ينفجر الصمت في الروايات كأنها الحرب، والاسماء عديدة: مقداد الحيح، محمد شلالدة، اسراء عابد،اسراء جعابيص، قيس شجاعية، شروق دويات، مصعب غنيمات، مرح باكير، ماهر الفروخ، بلال ابو غانم، جلال شراونة، تامر وريدات، عنان ملش، محمد زيادة، احمد حامد، احمد مناصرة، وتتشظى الروايات على نهايات مفتوحة.

دقيقة صمت، ازدحمت السجون والمعسكرات بالاطفال، لا احد يسمع كيف دعسوا عليهم وضربوهم وعذبوهم واطلقوا عليهم الكلاب المتوحشة، لا احد يسمع كيف عروهم من ملابسهم في البرد، وشبحوا مقيدين مهانين، غياب للنزعة البشرية هناك في ظلام السجون، يقصفون الورد من صدور الاطفال ، يسأل المحقق طفلا لماذا وصلت حيا؟ يقول الطفل: كي اقنع الهواء باحتضان خطوات الحجر

دقيقة صمت، قدم عيسى المعطي تستقر في قاع الزيتونة ، قليل من الماء، تحمله الكلمات لاكمال المراسيم في وقفتها الاخيرة، وقد ايقن الجميع ان في داخل جسده شرفة يمر بها شعب الى حديقة جسده، تستيقظ فيه اعضاؤه وزهوره، يتنفس الجسد في التراب، ليشهد الحاضرون انه لا زال حيا، عثرت حواسه على موطىء في الذاكرة لينهض مكتملا بقدمين كالملاك.

دقيقة صمت على صوت توفيق زياد:

وأبوس الأرض تحت نعالكم..

واقول أفديكم..

واهديكم ضيا عينيّ..

ودفء القلب اعطيكم..
——-
*رئيس هيئة شؤون الاسرى والمحررين

أخبار ذات علاقة

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

أهم الأخبار

اخترنا لكم

المكتب الإعلامي الفلسطيني في أوروبا